المفكر الذي نريده: جدل الدور والحدود

المفكر الذي نريده: جدل الدور والحدود
     يعيش المفكِّر في العالم العربي داخل دائرة من سوء الفهم والتوقعات غير الواقعية. فقبل مساءلته عما قدَّم أو لم يقدِّم، ينبغي أن نراجع صورة «المفكِّر» نفسها؛ إذ نريده في المخيال الشعبي قائدًا سياسيًا، وثائرًا، وضميرًا أخلاقيًا، وناشطًا شعبيًا، وفي الوقت نفسه باحثًا هادئًا متزنًا. هذا الخلط بين الأدوار يُحمِّله ما يفوق قدرته، ثم نحاسبه على ما لم يعدَّه جزءًا من وظيفته أصلًا.
     المفكِّر الحقيقي ليس نبيًا ولا زعيمًا بطبيعته. إنه صاحب أدوات تحليل وتأمل، يقرأ الواقع بعمق، يحاول تفسير الظواهر واستنباط المعاني، ويقترح رؤى وعلاجات فكرية. مهمته الطبيعية هي إنتاج الفكرة وفتح أبواب السؤال، وليس حمل اللافتات أو قيادة الشوارع. ورأيه اجتهاد لا يُلزم به أحدًا، وما يقوله يظل اقتراحًا معرفيًا وليس قرارًا سلطويًا أو قانونًا مقدسًا. ورغم ذلك، ما زال يُطلَب منه في عالمنا أن يكون كل شيء: أن يثور، ويهاجم، ويقود، ويصرخ، ويواجه، ويدفع حياته ثمنًا حتى يستحق لقب «مفكِّر»! بينما المطلوب الحقيقي منه أبسط وأكثر واقعية: أن يُحلل، أن يُضيء، أن يُوضح، وأن يصنع وعيًا هادئًا طويل المدى.
     ومع ذلك، تبقى للمفكِّر حدود إنسانية ومعرفية. فالتحليل العميق لا يحميه من الخوف، ولا يُعفيه من القيود القانونية والسياسية، ولا يحرره من هشاشته الاقتصادية. يعمل في بيئة تفتقر للمؤسسات الثقافية الجادة، وتطغى عليها ضغوط المجتمع قبل ضغوط السلطة. وليس غريبًا أن يجد نفسه محاصَرًا من جهتين: جهة تطلب منه الكلام، وجهة تتربص به إن تكلَّم! وفي وسط هذا المشهد، يصبح من غير المنطقي التعامل معه كقوة خارقة تستطيع تغيير الواقع من مقال أو كتاب.
     ثم إن العلاقة بين المفكِّر والسلطة ليست دائمًا علاقة صدام. ففي تجارب كثيرة في العالم، يكون المفكِّر مستشارًا أو باحثًا ضمن مؤسسات الدولة، وهذا ليس عيبًا ولا خيانة. أما في عالمنا العربي والإسلامي، فمجرد أن يجد المفكِّر نفسه قريبًا من السلطة، لن يَنفك من تُهَم التملُّق أو بيع الموقف. فهنا أصل المشكلة ليس في وجود علاقة من عدمها، إنما في التصور الشعبي الخاطئ بأن المفكِّر الصادق يجب أن يكون معارضًا بالضرورة، وأن الفكر لا يمكن أن يلتقي بالمؤسسات الرسمية إلا على أرض الفساد. وهذه رؤية تبسيطية لا تساعد على فهم طبيعة الدولة الحديثة ولا الدور الحقيقي للمعرفة داخلها.
     وإذا عدنا إلى تاريخنا، سنجد مفكِّرين كبارًا عاشوا في أرض فكرية قاحلة رغم عمقهم: مالك بن نبي، طه عبد الرحمن، عبد الله العروي، عبد الجواد ياسين، عبد الله النديم، أنور عبد الملك... هؤلاء لم يقصِّروا فكريًا، غير أن التربة الاجتماعية لم تكن مهيأة لثمار أفكارهم. والسبب أن صناعة النهضة ليست مسؤولية المفكِّر وحده كما يتوهم البعض؛ فالنهضات الكبرى قامت على تفاعل طبقات واسعة: طبقة وسطى نشطة، صحافة حرة، جامعات قوية، تجار وطبقات مدنية، ومؤسسات سياسية تُفسح المجال للبحث والمعرفة. أما المفكِّر وحده فلا يبني نهضة، كما أن الكتاب وحده لا يغيِّر مجتمعًا.
     ويزداد المشهد تعقيدًا لأن الجمهور العربي ينتظر من المفكِّر شيئًا آخر غير الفكر. ينتظر منه “حكمًا” يشبه الفتوى: هذا يجوز، وهذا لا يجوز؛ هذا صواب، وهذا خطأ. يطالبونه بوضوح مطلق، وبحسم نهائي، وبحجج قاطعة تشبه منطق الخطاب الديني، وليس منطق الفلسفة الذي يقوم على الاحتمال والتأويل. وهكذا يجد المفكِّر نفسه في موقع رجل دين عوض أن يكون في موقع صاحب رؤية. فيُسأل عن كل شيء، ويُطالَب بإجابات لا لبس فيها، بينما طبيعة التفكير الحي هي الشك وإعادة النظر بدل إطلاق الأحكام.
     كما ينشأ توتر آخر بين المفكِّر والجمهور من اختلاف الزمنين: المفكِّر يعمل بزمن طويل، بطيء، تراكمي؛ بينما الجمهور يتحرك بزمن سريع، متوتر، يريد نتائج فورية وشعارات واضحة. الفكر عملية معقدة تحتاج سنوات من الاشتغال، أما الجمهور فمزاجه مشدود للحاضر العاجل. ولهذا يحدث سوء الفهم: المفكِّر يفكر، والجمهور يريد يقينًا؛ المفكِّر يسأل، والجمهور يريد إجابات؛ المفكِّر يكتب للمستقبل، والجمهور يريد دوره اليوم. هذا الاختلاف الزمني جوهري في تفسير الصدام.
     ويبقى الخطر الأكبر الذي يهدد المفكِّر ليس السلطة ولا الجمهور فحسب، بل نفسه أيضًا حين يتحول تدريجيًا إلى “زعيم قبيلة فكرية”. فقد يقع في إغراء الجماعة التي تحيط به، وتنتظره ليُملي عليها الموقف، ويصبح هو مركز الولاء والهوية، دون أن يكون مركزًا للتساؤل. وهذا يحوله من مفكِّر منتج للأسئلة إلى قائد يُطلَب منه تثبيت اليقين أو خلق معجزة. والمفارقة أن المفكِّر يُدمَّر ويتفتَّت عندما يتحول إلى رمز لا يُناقَش، لأن الفكر بطبيعته فعل تجاوز واستمرار وليس جمودًا كما تتوقع أغلبية الجماهير.
    وفي النهاية، المفكِّر ليس بطلًا أسطوريًا أو محاربًا في ساحات الوغى، بل عقل يحاول أن يرى أبعد مما يرى الآخرون. دوره أن يُفكِّك ما اعتدناه، وأن يُضيء ما أظلم، وأن يزرع بذورًا صغيرة قد تتحول بعد عقود إلى أشجار. وإذا أردنا مفكِّرين حقيقيين، فعلينا أولًا أن نخفف من ثقل توقعاتنا، وأن نمنح الفكر فضاءً حرًا، وأن نتقبل أن دور المفكِّر ليس هو قيادة الجماهير، وليس أن يهتف مع الشعبوية، ولا أن يقاتل نيابة عنهم، بل أن يفكر... فقط أن يفكر. ومن هذا التفكير يبدأ كل شيء.