المعرفة حياة*
د. أحمد اليوسف
قصة تمهيدية
نقول: المعرفة حياة، لكن دعوني أبدأ بقصة وبمثال حتى أوضح المقصود.
الدكتور إبراهيم الفقي يروي في أحد كتبه قصة رمزية:
ياباني ذهب إلى مجاهل إفريقيا ليبحث عن جوهرة ثمينة. قضى خمسة أيام، كل يوم من الصباح حتى المساء يحفر ويحفر، ولكنه لم يجد شيئاً.
في اليوم الأخير، وأثناء عودته وهو يريد أن يحمل حقيبته ويذهب إلى المطار، التقى بطفل. وكان الطفل يحمل حجراً غريب الشكل. فقال له الخبير: "لو أعطيتك هذا البسكويت تعطيني الحجر؟" فرح الطفل، أخذ البسكويت، وأعطاه الحجر.
ذهب الخبير إلى غرفته وفحص الحجر، فوجده جوهرة تساوي خمسة ملايين دولار.
ويعلّق الدكتور قائلاً: هذا الطفل كان مليونيراً، ولكنه لم يكن يعلم، فباع غناه بما يحتاجه فقط. بينما الخبير الكبير الياباني، الذي كان يبحث عن الغنى، استطاع أن يحققه بثمن بسيط. فإذاً القضية قضية معرفة.
جوهر الفكرة
هذا الطفل لم يكن يعرف ما الذي يملكه، أما الخبير فكان يعرف قيمة الجوهرة.
وعندما نقول: معرفة، فإن موضوع المعرفة ليس كلمات، ولا جملاً، ولا مجرد معلومات تُكتسب. المعرفة هي خارطة طريق للحياة. المعارف الموجودة في ذهنك تتحول إلى سلوك.
فإن كانت هذه المعارف راقية وتشكل أسلوباً حضارياً للحياة، عشت حياة سعيدة. وإن كانت سطحية، غير مثمرة، غير ممنهجة، وغير نافعة، فستعيش حياة سقيمة.
مثال من مالك بن نبي
يقول المفكر مالك بن نبي: "لو نقلنا الشعب الألماني إلى إفريقيا، ونقلنا الشعب الإفريقي إلى ألمانيا، ماذا يحصل؟" البعض يظن أن الشعب الألماني سيصبح إفريقياً. لكن الحقيقة: أن إفريقيا ستصبح ألمانيا، وألمانيا ستصبح إفريقيا.
لماذا؟ لأن الثقافة - التي هي سلوك - هي التي تنقل الواقع من حال إلى آخر.
خلاصة المعنى
عندما نقول: المعرفة حياة، فالمقصود أن المعرفة التي تحصلها وتصبح جزءاً من تفكيرك هي التي تشكل سلوكك، وتنقلك من حياة إلى أخرى.
هذا هو المقصد. وسأقف عند أربعة محاور سريعة تنقلنا إلى نصيحة عملية مهمتها أن تفتح وعينا لقضية محورية: أن المسار المعرفي والثقافة التي تبنيها هي التي ستحدد مستقبلك بإذن الله تعالى.
المعرفة والقيم
والمفارقة أن علماء التربية، مثل الدكتور بوزيداني، يعلّموننا أن الإنسان حتى سن السادسة تتشكل 90% من قيمه.
وما معنى قيم؟ أي أن كل السلوك الذي تمارسه في حياتك مبني على هذه المرحلة. ومن الذي يشكّل لك هذه القيم؟ والداك، المدرسة، والإعلام.
فإذاً الفضاء الذي تتشكل فيه قيمك وثقافتك ومعارفك هو فضاء البيت والأسرة. فإذا كان هذا الفضاء متواضعاً غير مثمّن، ستكون ضحية هذا التشكيل في زواجك، في تخصصك، وفي عملك.
أهمية القراءة
إذا أحسنت التعامل مع ما تكتسبه من معرفة عبر القراءة والثقافة، تستطيع أن تغير قدرك ومستقبلك. أما إذا بقيت في حالة التقليد الفكري والمعرفي، فستبقى تعيش حياة لا تريدها.
أمثلة توضيحية
دعوني أوضح هذا الكلام بأربعة أمثلة:
منذ الطفولة، يبرمجك والداك بطريقة معينة: "هذا عيب، لا تفعل كذا، ماذا سيقول الناس؟".
ثم تذهب إلى المدرسة، والمعلم ما يقوله مقدّس: "اسكت يا بني، اسمع ما أقول، وحلّ المسألة".
ثم تذهب إلى المجتمع، فترى العادات والتقاليد، ولا يصح أن تخالفها.
ثم تدخل مجال التخصص والعمل: "خالك طبيب، عمك مهندس، فلان معه أموال من الهندسة، اذهب وتعلّم هندسة".
فهل استطعت أن تعيش حياتك مبتكراً، حراً، مختاراً؟ أم بقي التقليد يلاحقك حتى زواجك؟
وعندما تتزوج، تصبح المصيبة أكبر: يجب أن تتدخل الأسرة في القرار. ليس معنى ذلك أن الأمر كله خطأ، لكن الأبوين لم يعلّماك كيف تختار شريك الحياة.
وهكذا تتحول الحياة إلى مسلسل من التقليد.
دور المعرفة
ما دور المعرفة إذاً؟
دور المعرفة أن تعيد بناء فكرك وثقافتك من جديد، حتى تستطيع أن تختار مراحل حياتك بوعي: علمك، تخصصك، عملك، زواجك، والرسالة التي تريد أن تؤديها في الحياة.
وعندما نقول: المعرفة حياة، فالعلاقة بينها وبين القراءة واضحة.
المعرفة والقراءة
قد يقول بعض الناس: "عندي واتساب، أشاهد التلفاز، أقرأ منشورات"، لكن هل هذا يغني عن القراءة؟
الحقيقة: الإنسان معروف بما يحمله من أفكار. وفي العادة، في مجتمعاتنا، كما يعلّمنا المفكرون: القيم تتشكل في المحضن الأول (البيت)، ثم المدرسة تستكمل التشكيل، ثم الإعلام، ثم الحياة في المجتمع.
الحالة الفكرية التي تحملها تتحول إلى قرارات حياتية:
- عندما تريد أن تتعلم ← القرار بالتقليد.
- عندما تريد أن تعمل ← القرار بالتقليد.
- عندما تريد أن تتزوج ← القرار بالتقليد.
فإن بقيت هذه المعادلة، ستبقى ضحية للمجتمع الذي تعيش فيه.
كسر حلقة التقليد
هذه ليست مشكلة عامة الناس فقط، بل حتى المفكرين والكتّاب. فبعضهم يقول: "عندي مليون متابع"، لكنه يعود ليخضع لشروط المجتمع: إن طُلب منه تعديل أو تبسيط محاضرته، يرضخ.
المطلوب: كسر حلقة التقليد. فإذا كسرناها، استطعنا أن نختار حياتنا ومستقبلنا. أما إذا بقيت متواصلة، سنعيش كما عاش أسلافنا: نقول شيئاً في الفكر والثقافة، ونفعل شيئاً آخر في حياتنا اليومية.
هرم ماسلو ودوافع السلوك
يقول ماسلو: دوافع السلوك الإنساني تتدرج في مراتب:
1. الحاجات الأساسية: الطعام، الشراب، الزواج.
2. الأمن.
3. الانتماء.
4. تقدير الذات.
5. تحقيق الذات.
ثم أضيفت مرتبتان جديدتان: المعرفة والدين.
فالإنسان الذي يشبع حاجاته بطريقة صحيحة يعيش سعيداً، والذي يشبعها بطريقة خاطئة يعيش في تعاسة.
وهنا تأتي المعرفة لتحدد: كيف تختار حياتك؟
هل مات الكتاب؟
اليوم يقولون: "الكتاب مات". لكن هل فعلاً مات الكتاب؟
الإحصاءات تشير إلى أن المواطن العربي يقرأ بمعدل ست دقائق في السنة، بينما الغربي يقرأ 200 ساعة في السنة.
كل 85 مواطناً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما المواطن الغربي يقرأ 35 كتاباً.
كل 85 مواطناً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما المواطن الغربي يقرأ 35 كتاباً.
الكتاب لم يمت، لأنه يظلّ أساساً للتأسيس المعرفي. فعلم الأعصاب يؤكد أن القراءة تحرّك الدماغ، وتنشّط الأعصاب، وتخفّف التوتر، وتزيد المعارف. والكتاب المحكم الأكاديمي يظلّ مصدراً صحيحاً للمعرفة، بخلاف معلومة تأتيك من "واتساب" لا تعرف مدى صحتها.
خلاصة
إذا أردنا أن نصنع حياة سعيدة، فلا بد أن ننتبه إلى خمس قضايا أساسية:
1. تحقيق الذات: أن تكون ذا قيمة في مجتمعك، وهذا يحتاج إلى بناء معرفي.
2. الدين الواعي: الدين يجب أن يكون سبباً للسعادة والوعي، لا مجرد قصاصات متفرقة.
3. التوافق بين التخصص والمعرفة: لا يكفي أن يكون عملك في مكان وقراءتك في مكان آخر، بل لا بد أن تواكب زمانك (مثل قضايا الذكاء الصناعي).
4. العلاقات الإنسانية: القراءة والمعرفة تساعد على ضبط العلاقات مع الآخرين: الأبناء، الأزواج، والمجتمع.
5. إدارة المعرفة: لا تأخذ أي معلومة من أي مصدر وتبني عليها حياتك، بل تحتاج إلى التمحيص والتحقق.
الخاتمة
إعادة بناء أنفسنا معرفياً تعني إعادة بناء حياة سعيدة نختارها كما نريد. المعرفة الرصينة هي التي تشكّل مجموعة من السلوكيات الإيجابية الراقية، وهي التي تجعلك تعيش الصورة السعيدة التي تريد.
* أصل المقالة محاضرة ألقاها الدكتور أحمد اليوسف في معرض اسطنبول الدولي للكتاب العربي 2025