لو تأملنا في وصف عمرو بن العاص للروم (الغرب) حين قال: "إنَّهم لأَحْلَمُ النّاسِ عِندَ فِتْنَةٍ، وأَسرَعُهُم إفاقَةً بَعدَ مُصِيبَةٍ، وأوشَكُهُم كَرَّةً بَعدَ فَرَّةٍ، وخَيرُهُم لِمِسكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسنةٌ جميلةٌ: وأَمنَعُهُم مِن ظُلمِ المُلوكِ"، لوجدناها أوصافًا ومقوماتٍ للحضارات، تقوم وتنهض بها أو تضعف وتسقط بإهمالها، وهذه حقيقة يقرّها التاريخ الذي قرأناه، والواقع الذي نعيشه.
ولو درسنا هذه المقومات الخمسة لتبيّن لنا أنها في حقيقتها نموذجُ عملٍ وإنجاز، حيث تحقق كل قيمة جزءًا من بناء الحضارة والثقافة:
-
فالسلم الاجتماعي يحتاج إلى الانضباط وعدم الاندفاع مع كل صوت فتنة وثورة، فلا بد من التؤدة والصبر والحلم حتى تُحلّ المشاكل وتُفكّ الصراعات.
-
وقيام المجتمع بعد تعرّضه لبلاء إنساني أو كارثة طبيعية يحتاج إلى إرادة النهوض واستعادة التوازن.
-
والحفاظ على ذاكرة واعية بالأصدقاء والأعداء، وحسن اختيار وقت المواجهة واستعادة السيطرة والهيمنة، لا بد له من حسن إعداد وتخطيط.
-
والتكافل الاجتماعي وحفظ حدٍّ معقول من الكرامة الإنسانية لأبناء المجتمع ينشئ الانتماء والولاء للمجتمع، ويحفظ الموارد البشرية وكفاءتها.
-
وما من مجتمع يحقق العدالة السياسية بين أفراد مجتمعه وينظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلا وبلغ النهضة والهيمنة.
الأوصاف الخمسة هي الأوصاف التي تقوم عليها الحضارات قديمًا وحديثًا، فهي شروط عامة تحكم الأمم العابرة في التاريخ، فمن أخذ بها سلِم، ومن تركها ندم، فهي سُنن اجتماعية. قال تعالى: "كُلًّا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا"، وقال تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءًا يُجز به"، ومثيلاتها.
وكتاب "الحضارة – كيف هيمنت حضارة الغرب" لمؤلفه نيال فرغسون، بما تضمّنه من تحليل عميق لمقومات الحضارة الغربية وأسباب قيامها ونهوضها وهيمنتها، يوافق هذه الأصول الخمسة التي أشار إليها عمرو بن العاص، فهي قيم مشتركة للجميع. ويزيد عليها قيمًا عامة قد تختلف الأمم في طرق تحصيلها وإجراءات عملها، لكنها تتوافق في ضرورتها من أجل البقاء والسيادة.
ويستوقفني أن الباحث – مع كونه يعيش في ظل الأمة المتسيدة على العالم، تحكمه وتتحكم به – لم يركن إلى الشعور بالعناية والكسل وطلب التنعم بمكتسبات هذا الغرب المسيطر المهيمن فحسب، بل ذهب إلى تنبيه قومه إلى أن ما هم فيه من النعمة يوشك أن يزول إن تخلّوا عن القيم التي بلّغتهم هذا المقام. فكتب لهم هذا الكتاب ليكشف عن العناصر التي حققت تحولاتهم الثقافية والعلمية، فقامت لهم حضارة فائقة جعلت منهم قدوة لغيرهم، حتى بات الجميع مبهورًا ومعجبًا بمنتجات هذا الغرب (بمنتجاته العلمية والأدبية ومنتجات المتعة والتسلية، من لعب وطعام وشراب ولباس وأوقات عمل وراحة وغيرها...).
وقد كان المؤلف واضحًا جدًّا في تحديد أسباب النجاح والنهوض، إذ عدّدها كمجموعة من العناصر أو التطبيقات المؤسسية، وهي قوانين عامة للنجاح تصلح لمختلف المؤسسات.
1- التنافسية:
وتعني أن الأبواب مفتوحة، فالباب الأول مفتوح أمام جميع المواطنين ليشاركوا في صناعة سياسة البلد من خلال الترشح والانتخاب الحر، ولا يحول دون حقهم هذا فقرٌ أو غنى أو لونٌ أو عِرق. فمتى امتلك أحدهم مواطنة هذا البلد فهو مساوٍ لأصحاب البلد الأصليين الذين سبقوه بمئات السنين في انتمائهم إليه. ثم باب ثانٍ وهو حرية التفكير والبحث والنظر والاختراع والاكتشاف والإبداع، فهو مفتوح على مصراعيه أمام الجميع؛ فمن شاء أن يبدع فكرة فهو قادر على تحويلها إلى اختراع، وحتى لو كان فقيرًا فقد وفّرت له المؤسسات المالية التمويل اللازم لتحويل أفكاره وإلهاماته إلى اختراعات مربحة ونافعة. ثم باب ثالث يتعلق بحرية التجارة وإبداع فرص العمل والمنتجات التي يريدها، فلا قانون يمنع ابتكار أفكار تجارية ومالية تدر الأرباح. وبعد ذلك، فأبواب المنافسة والعدالة في الفرص تكاد لا تُعد ولا تُحصى هناك. وعلاقة التنافس بالثورة العلمية وتقدمها حاسمة، لأن حرية التفكير والإبداع تحتاج إلى مساحة من التنافس الحر والعادل.
2- الثورة العلمية:
صبغت هذه الثورة، التي بدأت في بريطانيا في القرن السابع عشر ثم تمددت إلى جميع أنحاء أوروبا، القوةَ التي مكنت الغرب من صناعة الاختراعات وتطوير الاكتشافات والوصول إلى أقصى أطراف الأرض، فقضت على إمبراطوريات عظمى كالصين والهند والعثمانيين. وما كانت هذه الثورة العلمية لتتحقق لولا الاهتمام الشديد بالمنهج العلمي وتطويره وإدخاله في أطوار منظمة تسمح بالاستفادة القصوى منه في حقول العلم المتنوعة؛ كالكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات، واستثمار الموارد من الفحم والحديد والماء وغيرها. فضلًا عن استقبال الغرب اختراع المطبعة استقبالا حافلًا جعل منها منعطفًا حضاريًا للعلم والمعرفة والسياسة والتأثير والوعي؛ فتم نشر المعارف والعلوم والأخبار لفئات واسعة من المجتمع لم تكن قادرة على الوصول إلى هذه المكتسبات، فزادت نسبة المتعلمين وتقلصت نسبة الأمية، وأصبح سُلّم الصعود في مراتب المعرفة متاحًا للجميع لكل من وجد في نفسه الذكاء والهمة والصبر والفضول. ومن نتائجه تطوير المنهج العلمي وتعميمه، فأصبح الغرب صانعًا لكل الاختراعات صغيرة وكبيرة، من الإبرة إلى الصاروخ، مرورًا بالأجهزة الكهربائية وأدوات الوصول والتواصل. وعلاقة الثورة العلمية بحكم القانون مصيرية، فلولا القانون العادل الضامن للحقوق والحامي لها لما تحركت همة أحدٍ نحو الإبداع والإنجاز.
3- حكم القانون: فالجميع سواسية أمام القانون، من رأس الدولة إلى أصغر المواطنين فيها، وبناءً عليه تُوفَّر الحماية للحرية الفردية بأنواعها كحرية التعبير والتجمع السلمي وحرية الاعتقاد والحق في الخصوصية. ومنها أن كل سلطة داخل الدولة مراقبة ومحاسبة، وعلى رأس كل ذلك استقلال القضاء القائم على تحقيق العدالة.
إن وجود هذه العدالة القانونية للجميع يُنشئ الشعور الغامر بالأمان والسلامة والطمأنينة، فتُوجَد الحياة السعيدة الخالية من الخوف والقلق. وعلاقة حكم القانون بالملكية الخاصة كانت مفتاح الهيمنة حقيقة؛ فالملكيات الخاصة تحتاج إلى الشعور بالأمان، وإلا هاجرت رؤوس الأموال وفرَّت، أو أصابها الخوف من العمل والاستثمار فكلَّت.
4- الملكية الخاصة: يُعَد هذا العنصر سببًا أساسيًا في نهضة الغرب وهيمنته على العالم، فهو الباب الذي طمأن جميع العقول التي تمتلك الأفكار الإبداعية على الانطلاق بحرية في أن تفكر وتبحث وتجد وتخترع وتستفيد من إبداعها الثروةَ والمكانةَ والراحةَ. وليس لأحد أن يستولي على ما أبدعه عقله، فهو حقه وحده، ولا تستطيع أي مؤسسة في الدولة أن تسلب منه حقه هذا. لذلك كان الغرب ساحةً واسعةً لكل الاختراعات التي ملأت الدنيا جميعًا، فمكَّنت الغرب من امتلاك أكبر قوة وأوسع ثقافة مؤثرة.
5- الطب الحديث: يشمل الطبَّ النظافةَ وشبكاتِ الصرف الصحي وتطويرَ العلاجات والأدوية. ولو نظرنا إلى متوسط الأعمار في الدول الأوروبية لوجدنا زيادةً في الأعمار، وما ذلك إلا بسبب القدرة على إزالة المخاطر الكثيرة من أمراض التيفوئيد والكوليرا وغيرها، والسيطرة على الدفتيريا والكزاز بواسطة اللقاحات. ونَعرض هنا جدولًا للمقارنة بين بعض الدول، يظهر أثر الطب الحديث في اختلاف متوسطات العمر في القرن التاسع عشر: