ما الدافع الحقيقي وراء حاجتنا إلى النهضة؟

السؤال المحفِّز
من أيام طرح عليّ أحد الشباب سؤالًا اعتبرته خطيرًا ومهمًا جدًا. كان سؤالًا مركبًا يقول فيه:
ما هي الدوافع والحاجات أصلًا للنهضة؟ وهل أصلًا مطلوب منا نهضة؟
وأضاف بلهجته الناقدة:
"دوّشتوا دماغنا، لحستوا دماغ اللي خلّفونا: نهضة وحضارة! لماذا؟ نحن مرتاحون بدون هذا الصداع، وكل واحد يعيش حياته وخلاص. لماذا هذه الدوشة كلها؟"
الشعور بالاستفزاز الحضاري
في الحقيقة، الشعوب التي تشعر أنها في حالة نوم بينما الآخرون سبقوها، عادةً ما يُولد عندها إحساس خاص اسمه "النهضة". هذا الشعور يشبه الارتكاريا الحضارية؛ يجعلها تفكر: لماذا نحن متأخرون؟
والأخطر من ذلك عندما يحسّ الناس أن الآخرين يريدون سرقة السرير الذي ينامون عليه. عندها يستفزون، ويشعرون أنهم مضطرون للنهوض لمواجهة متطلبات الأزمة. فالطبيعة الإنسانية في هذا التنافس الكوني تقتضي أنه إذا تأخرت عن الآخرين، يبدأون في استغلالك واستفزازك.
النهضة كاستجابة طبيعية
بهذا المعنى، النهضة ليست ترفًا، بل استجابة طبيعية من المجتمعات المستفَزّة في وجه التخلف. إنها رد فعل إنساني عندما يشعر المرء أن بيته سيُسلب، وكرامته ستُنتهك، فيستنهض طاقاته ويتحرك ليسابق الآخرين.
الاعتراض: حياة بسيطة بلا نهضة
الشاب الذكي أكمل سؤاله قائلًا:
"طيب، وإذا ما أردنا نهضة أصلًا؟ لماذا لا نعيش في قرية صغيرة نصلي ونصوم ونزكي ونحج، وخلاص! لا تعليم ولا كفاح ولا شوارع ولا وجع رأس؟ نعيش ببساطة مع بئر ماء وحمارين، كما يعيش بعض الجماعات مثل الأميش في أمريكا، الذين يرفضون التكنولوجيا الحديثة ويعيشون حياة زراعية بدائية. أليس هذا كافيًا؟"
الإسلام والنهضة
هنا يبرز السؤال الجوهري: هل الإسلام كدين يطلب منا عمران الأرض وصناعة الحضارة؟
هل تكفي آية مثل قوله تعالى: "واستعمركم فيها" لنستنتج وجوب النهضة، وإقامة مؤتمرات ومنتديات؟
هل البدو في الصحراء، أو الفقراء في القرى، محرومون من الجنة إن لم يصنعوا حضارة؟
أسئلة صعبة، ظللت أفكر فيها طويلًا.
القرآن ومعالجة أوضاع الإنسان
في تقديري، القرآن الكريم لم يأتِ ليعالج فقط حياة الإنسان في ظرف يختاره لنفسه، بل جاء ليعالج الإنسان في مختلف أوضاعه.
الإنسان يعيش في عالم مليء بالصراعات والتدافع: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض"، أي أن التدافع سنّة كونية.
فلو وجدت قرية آمنة لم يغزها أحد، يمكنها أن تستمر ببساطتها. لكن الواقع أن القرى تتعرض للغزو، كما حدث في سوريا أو أفغانستان.
إذن، القرآن يضع تصورًا للحياة الواقعية بكل صراعاتها وتعقيداتها، لا للحياة المثالية البسيطة فقط.
منطق القصص القرآني
انطلاقًا من هذه النقطة، يصبح مفهومًا أن تأتي قصص القرآن بهذا الترتيب:
- آدم عليه السلام: قصة العصيان والتوبة، لتأسيس طبيعة الإنسان الذي يخطئ ويتوب.
- موسى عليه السلام وبنو إسرائيل: مواجهة الطغيان، وإقامة العدل في وجه الاستبداد.
- داوود عليه السلام: صناعة الدروع العسكرية، لأن الحياة فيها حروب وصراعات تستوجب دفاعًا.
- يوسف عليه السلام: إدارة الأزمة الاقتصادية في مجتمع معقد.
- ذو القرنين: استخدام التكنولوجيا في بناء السدود الكبرى لوقف الفساد وحماية المجتمعات.
الرسالة الكلية
بهذا، يصبح واضحًا أن القرآن لا يتحدث عن مجرد حياة قرية بسيطة، بل عن تطور المجتمعات وتفاعلها الحضاري.
فالنهضة ليست مطلبًا ثانويًا، بل جزء من طبيعة الحياة البشرية التي لا تسير على وتيرة واحدة. قيم القرآن الكريم تتسق مع هذا الشكل الكلي، حيث يواجه الإنسان أوضاعًا متغيرة، فيبني حضارة ويعمر الأرض وفق منهج إلهي.