في كل نهضةٍ عرفها التاريخ، كان للمرأة حضور يتجاوز الصورة النمطية إلى الفعل الحقيقي في صناعة التحوّل. فالحضارة، في جوهرها، ليست بناءً ماديًا أو إنجازًا سياسيًا فحسب، بل هي ثمرة وعيٍ إنسانيٍّ متكامل، تُسهم فيه المرأة بوصفها أمًّا، ومربيةً، ومتعلمةً، ومفكّرةً، وصاحبة مشروعٍ مجتمعيٍّ مؤثر. إنّ الحديث عن المرأة في مسار النهوض الحضاري هو في جوهره حديث عن الإنسان ذاته، عن نصف المجتمع الذي يزرع الوعي في النصف الآخر.
التعليم: البداية التي تغيّر المآلات
حين تتعلم المرأة يتضاعف أثر المعرفة عبر الأجيال. فالمرأة المتعلمة تزرع في أبنائها حبَّ المعرفة والانضباط والتفكير النقدي، وهي قيم لا تقوم أي نهضة بدونها. وقد أثبتت الدراسات أن ارتفاع نسب تعليم النساء يرتبط مباشرة بانخفاض معدلات الفقر والأمية، وتحسن مؤشرات الصحة والتنمية البشرية.
في اليابان، مثلًا، كان لتعميم التعليم على الفتيات في منتصف القرن العشرين أثرٌ بالغ في صعود الاقتصاد الياباني لاحقًا، إذ أدّى إلى نشوء جيلٍ من الأمهات المتعلمات اللواتي ربّين أطفالًا يقدّسون العمل والإنجاز. أما في تونس وماليزيا، فقد ساهم الاستثمار في تعليم النساء في خلق توازنٍ مجتمعي جعل من الكفاءة معيارًا للتميّز بدلًا من النوع أو الجنس.
التعليم يفتح للمرأة أبواب العمل والوعي. ووعي المرأة يعني وعي الأسرة، ومن ثمّ وعي المجتمع، وهي السلسلة التي تبدأ بالتربية وتنتهي بالحضارة.
العمل: من المشاركة إلى الريادة
في المجتمعات التي أدركت أن نهضتها لا تكتمل بغياب المرأة، تحوّل العمل النسائي إلى طاقة تنموية هائلة. المرأة حين تعمل تضيف إلى دورة الإنتاج بعدًا إنسانيًا وتنظيميًا مميزًا.
فالمرأة في ميدان التعليم تصنع الوعي، وفي الطب تحفظ الحياة، وفي الاقتصاد تحرّك عجلة السوق، وفي ريادة الأعمال تبتكر حلولًا اجتماعية توازن بين الربح والمسؤولية.
فالمرأة في ميدان التعليم تصنع الوعي، وفي الطب تحفظ الحياة، وفي الاقتصاد تحرّك عجلة السوق، وفي ريادة الأعمال تبتكر حلولًا اجتماعية توازن بين الربح والمسؤولية.
في دولة الإمارات العربية المتحدة مثلًا، تمثل النساء أكثر من 30% من مواقع القيادة الحكومية، و20% من رواد الأعمال. هذه النسبة أتت من الإيمانٍ بأنّ النهضة لا تعرف التمييز، وأنّ المعيار الوحيد هو الكفاءة.
وفي رواندا، التي تُعدّ اليوم من أنجح النماذج الإفريقية في التنمية بعد الحرب الأهلية، تمثّل النساء أكثر من 60% من البرلمان. هذا الحضور أنتج نهضةً في التعليم والصحة والاقتصاد، تُعدّ من أسرع قصص النهوض في إفريقيا.
المرأة وبناء رأس المال الثقافي
إن مساهمة المرأة تتسع من التعليم والعمل لتشمل بناء رأس المال الثقافي للمجتمع. فهي التي تنقل اللغة، وتزرع الذوق، وتغرس القيم، وتشكّل الذائقة العامة في البيت والمدرسة والإعلام. وهي صانعة للثقافة لا متلقية لها.
التكامل لا التنافس
النهوض الحضاري لا يقوم على صراعٍ بين الرجل والمرأة، بل على تكاملٍ بين العقلين والوظيفتين. فالمرأة والرجل في ميدان التنمية جناحان لطائر واحد.
حين تنغلق المجتمعات في تصورٍ تقليدي يحصر المرأة في دائرة محددة، فإنها تشبه من يصرّ على الطيران بجناح واحد، ثم يتساءل لماذا لم يُحلّق بعيدًا.
حين تنغلق المجتمعات في تصورٍ تقليدي يحصر المرأة في دائرة محددة، فإنها تشبه من يصرّ على الطيران بجناح واحد، ثم يتساءل لماذا لم يُحلّق بعيدًا.
إنّ المرأة التي تُشارك في التعليم والعمل توسّع دائرة العطاء الإنساني، وتجعل التنمية أكثر توازنًا.
فالإدارة النسائية غالبًا أكثر مرونة في التواصل، وأقرب إلى العدالة العاطفية، وهي صفات يحتاجها العصر بقدر ما يحتاج إلى الصرامة والحزم.
فالإدارة النسائية غالبًا أكثر مرونة في التواصل، وأقرب إلى العدالة العاطفية، وهي صفات يحتاجها العصر بقدر ما يحتاج إلى الصرامة والحزم.
نماذج عربية وعالمية
- في ماليزيا، حين أُطلقت رؤية "2020"، كان تمكين المرأة في التعليم والعمل بندًا رئيسيًا. فارتفعت نسبة التحاق الفتيات بالجامعات إلى أكثر من 60%، وازدادت مشاركة النساء في القوى العاملة بنسبة 25% خلال عقد واحد، ما انعكس في توسّع الطبقة الوسطى وارتفاع الإنتاجية.
- في المغرب، دعمت إصلاحات قانون الأسرة (مدونة الأحوال الشخصية) حق المرأة في العمل والتعليم والمشاركة السياسية، فنتج عن ذلك ارتفاع كبير في نسبة النساء العاملات والمتعلمات، مع تحسن ملموس في التنمية المحلية.
- في السعودية، قفزت مشاركة المرأة في سوق العمل من 19% عام 2016 إلى أكثر من 35% في عام 2023، وفق تقارير رسمية، بفضل رؤية 2030 التي جعلت تمكين المرأة أحد محاورها الأساسية. هذه النقلة النوعية أعادت تعريف العلاقة بين التنمية والتمكين.
- في رواندا، كما ذُكر، قادت النساء مرحلة ما بعد الحرب، وأثبتن أن حضورهن في مواقع القرار شرط للاستقرار والنهضة.
نحو رؤية حضارية متكاملة
حين نقرأ التاريخ بإنصاف، نكتشف أن الأمم التي ارتقت فعلًا كانت تلك التي وسّعت مفهوم الشراكة الإنسانية.
وليس غريبًا أن تكون أول آية نزلت في القرآن الكريم مرتبطة بالعلم، وأول مدرسة في الإسلام بيت امرأة - خديجة بنت خويلد رضي الله عنها - دعمت الرسالة بمالها ووعيها وثباتها.
وفي ذلك دلالة بليغة على أن التعليم والعمل حين يلتقيان في عقلٍ أنثويٍّ مؤمنٍ بالغاية الكبرى، يولّدان أثرًا لا يقل عن المعجزات.
وليس غريبًا أن تكون أول آية نزلت في القرآن الكريم مرتبطة بالعلم، وأول مدرسة في الإسلام بيت امرأة - خديجة بنت خويلد رضي الله عنها - دعمت الرسالة بمالها ووعيها وثباتها.
وفي ذلك دلالة بليغة على أن التعليم والعمل حين يلتقيان في عقلٍ أنثويٍّ مؤمنٍ بالغاية الكبرى، يولّدان أثرًا لا يقل عن المعجزات.
إنّ المرأة مكملة للنهضة. وتمكينها في التعليم والعمل يهدف إلى تحقيق العدالة الحضارية: أن تعمل كل طاقة بشرية وفق قدرها وموهبتها في خدمة الارتقاء العام.
أفق المشاركة الفاعلة
في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات، لا مكان لأمةٍ تُقصي نصف طاقتها. إنّ النهوض الحضاري مشروع يتجاوز الأدوار التقليدية إلى أفق المشاركة الفاعلة. ومتى أُتيحت للمرأة فرص التعليم والعمل والإبداع، فإنّ المجتمع بأسره يربح: ربحًا في الوعي، وربحًا في الإنتاج، وربحًا في الإنسانية.
المرأة تطلب أن تتُفتح لها الأبواب التي كانت مغلقة، لتصعد بنفسها، ولتُسهم بقدرتها الفطرية في صنع عالمٍ أكثر عدلًا وجمالًا، عالمٍ يليق بإنسانٍ كرّمه الله، ذكرًا كان أم أنثى.