من الفضاء العام الكلاسيكي إلى الفضاء العام الرقمي

من الفضاء العام الكلاسيكي إلى الفضاء العام الرقمي
قدّم يورغن هابرماس مفهوم الفضاء العام بوصفه المجال الذي يتداول فيه المواطنون القضايا المشتركة عبر نقاش عقلاني، مستقل نسبيًا عن سلطة الدولة والسوق، ويؤثّر في القرار السياسي عبر الرأي العام. جاء هذا التصور في سياق صعود الصحافة المطبوعة والصالونات الفكرية في أوروبا الحديثة.
مع التحوّل الرقمي، ظهر سؤال جديد: هل تشكّل منصّات التواصل فضاءً عامًا جديدًا، أم أنّها تعيد تشكيله على أسس مغايرة؟ من هنا تنشأ نظرية الفضاء العام الرقمي التي تطوّر طرح هابرماس وتضعه في قلب بيئة تهيمن عليها البيانات والخوارزميات والشبكات الاجتماعية.
أولًا: تعريف نظرية الفضاء العام الرقمي ومرتكزاتها
نظرية الفضاء العام الرقمي (Digital Public Sphere) تشير إلى مجال تواصلي يتكوّن داخل الفضاءات الإلكترونية، خصوصًا منصّات التواصل، حيث يتداول الأفراد والجماعات الأخبار والأفكار، ويعبّرون عن مواقفهم، ويشاركون في تشكيل الرأي العام.
ترتكز هذه النظرية على ثلاثة عناصر:
  1. التحوّل البنيوي للإعلام: الانتقال من إعلام مركّز في يد مؤسسات كبرى إلى منصّات مفتوحة يشارك فيها المستخدم منتِجًا وموزِّعًا للمحتوى في الوقت نفسه.
  2. توسّع دائرة الفاعلين: دخول فئات جديدة إلى النقاش العام؛ شباب، حركات اجتماعية، مؤثرون رقميون، منظمات مجتمع مدني، وحتى خوارزميات تعمل كـ«وسطاء غير بشريين» في تنظيم تدفّق المعلومات.
  3. تداخل المحلي والعالمي: القضايا المطروحة في الفضاء الرقمي تمتدّ من شؤون الحيّ إلى الصراعات الكونية، في لحظة زمنية واحدة.
ثانيًا: المعطيات الرقمية التي تعطي النظرية وزنها
الأرقام الحديثة توضّح أنّ الفضاء العام الرقمي أصبح بنية تحتية أساسية للحياة الاجتماعية:
  • تقرير Digital 2024 يقدّر عدد مستخدمي وسائل التواصل بحوالى 5 مليارات مستخدم في مطلع 2024، أي أكثر من 62% من سكان العالم، مع 5.35 مليارات مستخدم للإنترنت عمومًا.
  • دراسة محدثة (فبراير 2025) تشير إلى أنّ نحو 63.9% من سكان العالم يستخدمون وسائل التواصل، بمتوسط استخدام يومي يبلغ ساعتين و21 دقيقة.
هذه المعطيات تجعل الفضاء الرقمي ساحة مركزية لتشكّل الوعي الجمعي، لا مجرد قناة إضافية بجوار الإعلام التقليدي.
ثالثًا: إمكانات الفضاء العام الرقمي في توسيع المشاركة
النظرية ترصد وجوهًا إيجابية واضحة، من أبرزها:
  1. تخفيض كلفة الدخول إلى النقاش العام
    إنشاء صفحة أو قناة أو حساب شخصي يتيح للمواطن التعبير عن موقفه دون المرور عبر بوّابات المؤسسات الإعلامية. وهذا مكّن حركات شبابية عديدة من الوصول إلى جمهور واسع في زمن قصير.
  2. تعزيز المشاركة السياسية والمدنية
    دراسة حول الشباب في الأردن سنة 2023–2024 توضّح أثرًا إيجابيًا ملحوظًا لاستخدام وسائل التواصل في المشاركة السياسية، سواء عبر النقاش أو المتابعة أو المشاركة في الحملات الانتخابية والاحتجاجية.
    كذلك تناولت أبحاث في ثلاث دول عربية (مصر، الكويت، تونس) العلاقة بين الرقمنة والمشاركة السياسية، وبيّنت ارتباطًا واضحًا بين قوة الحضور الرقمي وارتفاع مستويات الانخراط في الشأن العام.
  3. تعدد الأصوات والهويات
    الفضاء الرقمي يفتح المجال أمام الفئات المهمّشة - عرقيًا أو مناطقيًا أو طبقيًا أو جندريًا - لعرض تجاربها، وإنتاج سرديات بديلة عن سرديات النخب التقليدية.
بهذا المعنى، يقدم الفضاء العام الرقمي فرصة حقيقية لدمقرطة النقاش، وتوسيع مساحة من يشاركون في صناعة الرأي العام.
رابعًا: التحديات البنيوية - التضليل، التفتيت، وخوارزميات السيطرة
في المقابل، ترصد النظرية مجموعة من التهديدات التي تمسّ جوهر الفضاء العام:
1. انتشار التضليل الرقمي
  • دراسة مشتركة لليونسكو وإيبسوس عام 2023 تُظهر أنّ الثقة في الأخبار عبر وسائل التواصل تبلغ نحو 50% فقط، مقارنة بـ66% للأخبار التلفزيونية و63% للراديو.
  • مسح عالمي سنة 2023 يشير إلى أنّ أكثر من 85% من المشاركين يشعرون بالقلق من تأثير المعلومات المضلِّلة عبر الإنترنت، و87% يرون أنّها ألحقت ضررًا بالسياسة في بلدانهم.
    أبحاث أخرى تؤكد أنّ شبكات التواصل تشكّل قناة رئيسية لانتشار التضليل، خصوصًا في قضايا الصحة العامة والانتخابات.
2. فقاعات الترشيح وغرف الصدى
  • خوارزميات المنصّات تركّز على المحتوى الأكثر تفاعلاً، ما يعني تغذية المستخدم بالمحتوى المتوافق مع ميوله السابقة، الأمر الذي يدفع نحو استقطاب حادّ وتآكل المساحات المشتركة للنقاش العقلاني.
3. تجارية الفضاء العام
  • المنصّات الرقمية مؤسسات ربحية تعتمد على الإعلانات واستثمار البيانات، وبالتالي تنشأ علاقة معقّدة بين المصلحة التجارية ومتطلبات النقاش العام الرشيد، وتتحول البيانات الشخصية إلى مادة سلطة تُستخدم في الإقناع السياسي الموجّه.
هذه التحديات تجعل الفضاء العام الرقمي ساحة متنازَعًا عليها بين قوى التحرّر وقوى الهيمنة، لا مجالًا حرًّا بالكامل.
خامسًا: الفضاء العام الرقمي والنهوض الحضاري
من منظور نهضوي، تحمل نظرية الفضاء العام الرقمي أبعادًا مهمّة:
  1. منصة لإعادة بناء الوعي
    مشروع النهوض الحضاري يحتاج إلى فضاء تداول حيّ للأفكار والقيم والخطط. المنصّات الرقمية قادرة على توفير هذا الفضاء، حيث تتلاقى المبادرات البحثية، والحركات الطلابية، والهيئات العلمية، والجمهور العام في حوار دائم حول أسئلة الهوية والفاعلية وموقع الأمة في العالم.
  2. تحويل الجمهور من متلقّ سلبي إلى فاعل مشارك
    منطق هابرماس يقوم على «المواطن المحاجِج» القادر على تبرير مواقفه. البيئة الرقمية تمنح هذا المواطن أدوات النشر، والتعبئة، والتنظيم، بشرط تراكم مهارات التفكير النقدي، والتحقق من الأخبار، وأخلاقيات النقاش.
    كلما ارتفع مستوى الكفاءة الإعلامية والرقمية في المجتمعات، ازداد احتمال تحوّل الفضاء الرقمي إلى مدرسة يومية لتدريب الأجيال على الحوار العام لا مجرد استهلاك للترفيه.
  3. إعادة تعريف دور النخب العلمية والفكرية
    أبحاث حديثة تدعو الجامعات والعلماء إلى الحضور الفعّال في الفضاء العام الرقمي، بوصفه امتدادًا لدورهم المعرفي والتربوي في المجتمع.
    نجاح مشروع حضاري يحتاج نخبًا قادرة على ترجمة المعرفة المعمّقة إلى محتوى رقمي ميسّر يشارك الناس في صياغة الأسئلة والبدائل، ويحمي النقاش من التبسيط المخلّ أو الشعبوية.
  4. اشتراطات تحويل الفضاء الرقمي إلى رافعة حضارية
    يمكن تلخيص الشروط الاستراتيجية في أربعة مسارات:
  • بناء برامج منظّمة لمحو الأمّية الرقمية والإعلامية لدى اليافعين والشباب.
  • تشجيع مبادرات منصّات مستقلة تراعي معايير الشفافية في إدارة الخوارزميات والبيانات.
  • تعزيز حضور الحركات الإصلاحية والمؤسسات العلمية في النقاشات الرقمية حول القضايا الكبرى: التعليم، الاقتصاد، الحرية، العدالة الاجتماعية، الاستدامة البيئية.
  • تطوير أخلاقيات تواصل مستمدة من القيم القرآنية والإنسانية: الصدق، الإنصاف، مراعاة كرامة الإنسان، تحري البيّنة، اجتناب التشهير والازدراء.
بهذا التصور، يتحول الفضاء العام الرقمي إلى بنية تحتية للنهضة: مجال لإطلاق الأفكار، واختبار النماذج، وبناء شبكات الفاعلين، وصناعة سردية حضارية جديدة تشارك فيها جماهير واسعة عبر أدوات بسيطة في متناول اليد.
مسرح أساسي
نظرية الفضاء العام الرقمي تمدّ خيطًا مباشرًا بين عمل هابرماس الكلاسيكي حول «التحوّل البنيوي للفضاء العام» وبين واقع منصّات التواصل التي تشكّل اليوم مسرحًا أساسيًا للسياسة والثقافة والمعرفة. الأرقام العالمية حول انتشار وسائل التواصل، ومستويات الثقة والقلق من التضليل، والأبحاث التي تربط الحضور الرقمي بالمشاركة السياسية، تكشف أنّ النقاش حول مستقبل المجتمعات يمرّ في جزء كبير منه عبر هذه البيئات الجديدة.
من زاوية النهوض الحضاري، الفضاء العام الرقمي فرصة ومسؤولية معًا: فرصة لتوسيع مجال الشورى والمساءلة وتداول الأفكار، ومسؤولية لبناء وعي نقدي وأخلاقي يحول هذا الفضاء إلى نهر معرفة وتعاون، لا إلى سيل من التضليل والاستقطاب.

قائمة بالمصادر والمراجع
  1. Habermas, J. (2022). The New Digital Public Sphere.The Lab's Quarterly
  2. Staab, P. et al. (2022). Social Media and the Digital Structural Transformation of the Public Sphere.EconStor
  3. Eisenegger, M. (2023). “Reconceptualizing Public Sphere(s) in the Digital Age”. Communication Theory.OUP Academic
  4. Digital 2024 Global Overview Report – We Are Social & Meltwater.We Are Social UK
  5. Smart Insights. (2025). Global Social Media Statistics Research Summary.smartinsights.com
  6. UNESCO & Ipsos. (2023). Study on the Impact of Online Disinformation during Election Campaigns.UNESCO+1
  7. Alodat, A. M. (2023). “Social Media Platforms and Political Participation: A Study of Jordanian Youth Engagement”.MDPI
  8. Karabchuk, T. (2024). “Digitization and Political Participation in the MENA Region: Egypt, Kuwait, and Tunisia”.worldofmedia.ru
  9. Denniss, E. (2025). “Social Media and the Spread of Misinformation”. Health Promotion International.OUP Academic