كيف رأى إقبال طريق المسلمين نحو النهضة؟ (4)

كيف رأى إقبال طريق المسلمين نحو النهضة؟ (4)
رؤية إقبال لإنسان النهضة
     عندما يجتمع الفن مع الفكر، تطير معه إلى عالم يجمع بين القلب والعقل، الشعور والتعقل، والتأمل والتفكير. هكذا حملتني قصيدة "حديث الروح" وأنا أدندن بها، لأغوص أكثر مع إقبال ونظرته للإنسان والنهضة؛ بعد أن فهمنا تصوره للشخصية الإنسانية ورؤيته حول حركتها ومعيار تقييمها للأشياء.
     وهذه المعرفة الذاتية هي التي تمنح الذات قوتها، فالمعرفة قوة بذاتها عندما تكون واعية لما يحدث من اضطرابات وتوترات في داخلها. ومن هذه المعرفة، انطلق إقبال في رؤيته حول النهضة.
     كانت رؤية إقبال للنهضة تبدأ من تلك الشرارة الخفيّة التي أسماها (الخُودي)؛ تلك القوة التي إن ضعفت خبا معها ضوء الأمة، وإن اشتعلت عاد العالم يتشكّل حول الإنسان لا فوقه. كان يقول: إن الخلود لا يُعطى هدية، بل يُنتزع بالوعي والجهد، وإن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يرثه من أمجاد الآخرين، بل بما يخلقه من أثرٍ حيّ. ولهذا كان يصرّ على أن "الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"؛ فنهضة الداخل هي نهضة الخارج، واليقظة في الروح مقدمة لكل يقظة في التاريخ.
     وكان يرى أن أكبر ما جعل الأمة تتأخر هو الجمود الذي كبّل الأفهام؛ فقد اخترع الناس لأنفسهم قيوداً ثم بكوا من ثقلها، بينما الدين في جوهره حركة لا تعرف السكون. وكان يردد: "لو كان الماضي يكفي، لما احتاج الإنسان إلى عقل"؛ لأن العقل عنده نورٌ لا يكتمل إلا بنار القلب، فالإيمان بلا عقل عاطفة عابرة، والعقل بلا إيمان نورٌ بارد، ولا تجدّد بلا شعلة في الصدر، ولا بناء بلا ضوء يهدي الطريق.
     ولم يكن الإنسان في نظره مفعولاً به، بل قوة خلاقة تشارك في كتابة قدرها، فيسأله: لا تسأل القدر ماذا يصنع بك، بل اسأل ماذا تصنع أنت بالقدر! فالله وهب الإنسان جناحين، وجعله قادراً على أن يحوّل الخوف إلى فعل، والضعف إلى بداية جديدة.
     وحين نظر إلى العالم الإسلامي تحت وطأة الاستعمار، قال: إن الخطر الأكبر ليس ممن يسرق الأرض، بل ممن يجعل العقل يقبل السرقة. الضعيف يرى الظالم قدراً، والقوي يراه بشراً؛ لذلك دعا إلى تحرير الوعي قبل تحرير الجغرافيا، وإلى بناء مجتمع يقوم على العدل، لأن العدل أساس العمران، ومن فقده فقد الحضارة. فالأمة التي لا تتعلم تموت واقفة، والدين لا يدعوك أن تهرب من العالم، بل أن تبنيه بوعي وحرية ومسؤولية.
     وهكذا، تتلخص رؤيته كلها في عبارة تتردّد كنبضٍ تحت النصوص: غيّر نفسك تتغيّر الأكوان، وانفخ في رمادك تشتعل النيران. نهضة تبدأ من فرد مستيقظ، ثم تمتد إلى أمة تنفض عن نفسها غبار القرون.
     لم يكن كلامه نظرياً، بل كان حيوياً حركياً عملياً؛ فقد ترك منهجاً لكل ما دعا إليه، وترك لنا بحراً يحتاج منك فقط إلى الإبحار. فإذا وجدت روحك قد توقفت متأملة مع رحلته، فتابع معنا سباحتنا في كلماته وكتبه.
     يتبع..