الوعي الاستراتيجي... ضرورة النهضة

الوعي الاستراتيجي... ضرورة النهضة
الوعي الاستراتيجي... ضرورة النهضة 
نور الهدى ملياني    

المقدمة
 في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه المصالح، وتتنازع فيه الأمم على النفوذ والموارد، لم تعد العفوية أو ردّات الفعل كافية. بل إن بقاء الأمم ونهضتها يتوقف على امتلاكها لما يُعرف بـ"الوعي الاستراتيجي" - ذلك البُعد العميق من التفكير الذي يقرأ الواقع ويستشرف المستقبل، ويحوّل التحديات إلى فرص.
مفهوم الوعي الاستراتيجي
الوعي هو الملكة والقدرة التي نستقبل بها ما هو موجود، وهو باستمرار وعي بشيء، فلا يوجد وعي من دون مفعول به.[1] 
أما الاستراتيجية، فهي تحدد طريقة التعامل مع المتغيرات المتوقعة في المستقبل، سواء في البيئة التنافسية أو قواعد المنافسة أو في المنافسين أو الجمهور. كما تحدد طبيعة القرارات التي تحتاجها المنظمة لمواجهة المستقبل. إنها باختصار تجيب عن سؤال "كيف سنلعب لنكسب؟"[2]
 فالوعي الاستراتيجي إذن هو القدرة على فهم البيئة الداخلية والخارجية بعمق، وتحليل الاتجاهات المستقبلية، واتخاذ قرارات ترتبط برؤية بعيدة المدى، تحفظ المصالح العليا للأمة. إنه بوصلة تفكير الأمم، وجهاز الإنذار المبكر ضد الكوارث والانحرافات. 
أسس بناء الوعي الاستراتيجي
يكمن جوهر مشكلة النهضة في إقناع أمةٍ مسكونة بأفكار الماضي أن تعانق المستقبل، وأن تغيّر نمط تفكيرها، وتُعِيد ترتيب معارفها، وأن تتحرك في الحياة على بصيرة. والوعي الاستراتيجي هو أساس بناء نهضة الأمة، فهو ثمرة جهود قادة جادين يحملون منهجا فكريا استقرائيا ذو نسق متكامل يمكنهم من قراءة الواقع، والإحاطة بظروف وملابسات الواقعة قبل جعلها قاعدة ارتكاز قياسية، وبالتالي مواجهة الذات والكشف عن الاختلالات الداخلية العميقة في البنية التصورية ومراجعتها، وليس التهرب منها ومحاولة تبريرها، لأن البنية التصورية عادة يحرسها سياج كثيف من الأفكار الميتة والقاتلة، بالإضافة إلى حمايتها من طرف مؤسسسات بنت وجودها على هده البنية، واستوطنت العقل العامي، وكونت تحالفها مع الساسة وربما وجد الأخر من الخارج في وجودها مصلحة، كونها ضمانة كبرى لتخلف المجتمعات تيسر له نهبها وتوجيهها.
فالبنية التصورية الضرورية للتقدم أو كما يسميها الدكتور جاسم سلطان "التصورات الكبرى" تتمثل في ثمانية مناظير:[3]
النظرة إلى الإنسان وكرامته الوجودية، وحقه في الحرية والعدالة، بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه.
النظرة إلى العلم، وقدرة مؤسسات التربية والتعليم على تخريج الطالب المحب للكتاب، والقادر على استخدام المنهج العلمي في معالجة شؤون الحياة وأسئلتها؛ أي قدرة التعليم على إعداد الفرد الدي يبحث عن رسالته لا عن حظه ووظيفته.
النظرة إلى الطبيعة باعتبارها كنزًا من الأسرار يقتضي القراءة والاكتشاف.
النظرة إلى العمل، باعتباره إحسانًا في بذل الجهد والوقت، والحرص على الإنتاج و الجودة.
النظرة إلى الوقت بوصفه ثروة يجب اغتنامها، لا عبئًا يجب التخلص منه، فالغد الأفضل نتيجة عمل وتخطيط وحركة تستبق الزمن.
النظرة إلى الدين، على أنه رابط روحاني بين المخلوق والخالق، يقود إلى حسن الخُلق مع الخَلق كافة ويقود إلى إتقان العمل كل العمل وتقديم العون، ما يقوّي  شبكة العلاقات الاجتماعية.
النظرة إلى العلاقة بين المواطنين، على أساس المساواة، فلا وجود للاستعلاء والتمايز.
النظرة إلى العلاقة بالأمم الأخرى، على أساس بناء جسور التفاهم والتعارف وتبادل المنافع، وبالتالي القدرة على الاختلاط بالعالم والتعاون معه.
يحتاج تفعيل هذه التصورات الكبرى في واقع الأمة إلى تيار من جهود متنوعة للعديد من المهتمين: أفرادًا، وجماعات، ومؤسسات رسمية وغير رسمية تتعاون فيما بينها لتحقيق الهدف الكلي الذي تفرضه اللحظة، دون وجود هرم تنظيمي يقوم بقيادة العملية، كما هو معتاد في التنظيمات المؤسسية[4].
أهمية الوعي الاستراتيجي لنهضة الأمة
إن البنية التصورية والمنهجية التي تشكّل الوعي الاستراتيجي في أي مجتمع هي أعمق ما فيه، لأن المجتمعات التي يختل فيها نظام الأفكار تعجز عن إيجاد طريق التقدم مهما أتيح لها من فرص وثروات، حيث يفشل قادتها في وضع خطة استراتيجية ترسم مسارًا مستقبليًا في اتجاه هدفٍ معين، ويصاحب ذلك عجز عن اتخاذ القرارات التي تحتاجها الأمة لمواجهة المستقبل.
وما يتعرض له إخواننا في غزة من إبادة ومجاعة هو خير مثال عن افتقار القادة - القادة السياسيين والعلماء والنخب الثقافية بمختلف اتجاهاتهم - للوعي الاستراتيجي، حيث عجزوا عن اتخاذ قرار جامع بوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية. تُرك خط الدفاع الأول عن مسرى رسول الله وحيدًا، يعاني الأمرين مرارة الحرب ومرارة التجويع والخذلان من العالم الإسلامي كافّة، وهنا تبرز أهمية الوعي الاستراتيجي للأمة.
يتمثل عمل قادة الرأي في الأمة الإسلامية الذين يحملون وعيًا استراتيجيًا في استغلال وسائل الإعلام والاتصال المختلفة لتوجيه الرأي العام - العامي والمثقف - إلى رؤية الصورة الكبرى لمشروع الدين في الحياة وإدراك مهام الإنسان المتمثلة في إعمار الأرض بالعمل الصالح، ووقف الفساد وسفك الدماء، وإقامة العدل بين البشر، ونشر الرحمة في الوجود. فالإنسان مكلف بهذه المهام ومراقب عليها ومسؤول عن تحقيقها، وهذا يقود الإنسان إلى الإحسان في العمل وتحقيق الفاعلية القصوى والانتقال من "إنسان الانتظار" إلى "إنسان النهضة" ذي التفكير النسقي، الذي يملك القدرة على رؤية الأمور من منظور شامل كامل يمكنه من إدراك وحدة مشكلات الأمة، وبالتالي تحديد الهدف والمرحلة والتوقيت والوسائل اللازمة عند صياغة الحلول. فتصبح السياسة قادرة على صياغة الحكم اللائق بواقع البلاد، بتوجيهها للطاقات الاجتماعية لتحقيق بناء المجتمعات في الداخل وتحقيق مكانتها في الخارج، وبالتالي تصبح البلاد قادرة على صياغة الحكم الصائب في توجيه سياستها وفي تعديلها إن انحرفت. 
فلا يكفي أن تحدد السياسة عمل الدولة في اتجاه معين، مع وجود جهاز رقابة ضروري لمتابعة عمليات التنفيذ، وجهاز حماية للمواطن من اعتداء عمل الدولة نفسه عليه. كما لا يكفيها أن تمنح التوتر الضروري للطاقات الاجتماعية لتبلغ الهدف المعين، بل يجب أن يكون الهدف متطابقًا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة المحيطة بهذا التطور، وأن يكون فوق ذلك متطابقًا مع مصير الإنسانية كلها، أي أن يكون الهدف ساميًا[5]، يرقى لمستوى وحدة الأمة، من خلال خلق إمكانيات اتصال بين المجتمعات المختلفة التي يجمعها المصير المشترك، عبر الأمور التالية:
- يكون لدينا عملة واحدة (مثل الأورو).
- يمثلها موقف خارجي واحد (مثل البرلمان الأوروبي).
- لها جيش مشترك واحد (مثل الناتو).
- فتح الحدود بينها لتسهيل عملية التنقل (مثل الشنغن).
- تتفق فيما بينها على نظام معايير محدد (مثل الإيزو).
أما ما عدا ذلك، فليكن لكل بلد خصوصيته من نظام سياسي وحكام، أو عقيدة وفقه ومذهب، فالإصرار على توحيد كل شيء لن يوحدنا.
الوعي الاستراتيجي هو صمام أمان للأمة يحميها من التفكك الداخلي ومن التهديدات الخارجية، إذ يمكّنها من التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها (مثل الأزمات الاقتصادية أو الحروب)، والتخطيط للتعامل معها، كما يحقق التنمية المستدامة ويعزز موقع الأمة في العالم باعتبارها منافسًا لا تابعًا.
الخاتمة
الوعي الاستراتيجي الذي يحمله القادة الذين تفرزهم التحديات، والذين تمكنوا من قيادة ذواتهم بتخليصها من مناهج التفكير العقيمة ومن التردد، وزودوها بإطار فكري قابل للتطور المستمر، وطوّروا مهارات قيادة الآخرين نحو الهدف، هو المرشد للعبور الآمن إلى المستقبل، وبالتالي تحقيق النهضة.

المراجع
[1] د. جاسم سلطان، معجم النهوض الحضاري، إعداد معتز أبو قاسم، ط1، الصفوة للدراسات الحضارية، 2023
[2] د. جاسم سلطان، التفكير الاستراتيجي والخروج من المأزق الراهن، ط2، المنصورة: مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، 2010
[3] د. جاسم سلطان، التصورات الكبرى والتقدم الاجتماعي، طبعة خاصة
[4] د. جاسم سلطان، من الصحوة إلى اليقظة، طبعة خاصة
[5] مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دمشق: دار الفكر