كيف رأى إقبال طريق المسلمين نحو النهضة؟ (3)

كيف رأى إقبال طريق المسلمين نحو النهضة؟ (3)
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عنـاءِ
 هتفـت بـه فطـار بـلا جناح وشـق أنيـنه صـدر الفضـاء 
     تحمل قصيدة حديث الروح محمدَ إقبال إلى فضاء تتداخل فيه الموسيقى بالفلسفة، وتلتقي فيه التجربة الوجدانية برؤيته حول الإنسان والهوية والارتقاء الروحي. فهذه الأبيات التي “تسري في الأرواح وتدركها القلوب بلا عناء” تفتح بابًا لفهم عالم إقبال في نظرية الذات، وموقفه من أزمة الهوية التي عاشها الفرد المسلم في زمنه، وما زالت آثارها ممتدة.
     يرى إقبال أنّ المجتمع الإسلامي أصيب بأمراض فكرية وروحية أدّت إلى فقدان الشخصية لمركزها الأصلي، وإلى ظهور حالة من عدم الاستقرار في الهوية الذاتية. ولهذا دعا المصلحين إلى إعادة بناء الإيمان بقدرات الذات الإسلامية، وإحياء روحها الداخلية المتصلة بثقافتها الروحية العميقة. وعندما سُئل عن مصدر فلسفته، أشار إلى الآية 105 من سورة المائدة بوصفها الأساس الذي انطلقت منه رؤيته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، ففي هذه الآية يرى إقبال دعوة واضحة إلى بناء الذات، وتحمّل مسؤوليتها، والسير نحو الاكتمال الروحي عبر معرفة النفس والارتقاء بها.
     تتمحور فلسفة إقبال حول فكرة أنّ الإنسان الديني والأخلاقي يحقق هدفه عبر إثبات ذاته وتنمية فرديته، لا عبر محوها أو إلغائها. فبقدر ما يقترب الإنسان من تحقيق وحدته وتماسكه الداخلي، يقترب من مصدره الأعلى، بينما يبتعد عن هذا المقصد كلما تضاءلت فرديته وضعفت قواه الروحية. والحياة - كما يصورها - حركة ارتقاء مستمرة تخلق مطالب جديدة، وتقهر الصعاب، وتستخدم ما أودع الله في الإنسان من قوى: الحواس، والقدرة على الإدراك، والخيال، والوعي.
     وتبرز هنا فكرة “التوتر” التي جعلها إقبال ركيزة في فهم الشخصية. فالشخصية عنده حالة من الاستعداد الدائم، ومن الحيوية التي ترفض الركود؛ إذ إنّ زوال هذا الاستعداد يولّد استرخاءً يضرّ بالذات ويُضعف حضورها. لذلك يشكل التوتر - بمعناه الإيجابي - محفزًا لليقظة الفكرية والانبعاث الداخلي. ويمكن تشبيهه بالتوتر الكهربائي الذي يمرر المجال ويولد التيار؛ فهو ليس توترًا مرضيًا، بل طاقة حيّة تدفع الإنسان إلى الفعل، والتجاوز، وصنع الأثر.
     وعند الغوص أكثر في رؤية إقبال، يظهر أنّ هذا التوتر ينتج عن الفرق بين الطاقة الكامنة في الإنسان - تلك التي تتولد من الأفكار والعواطف والمواقف - وبين طاقة الحركة التي يحررها عبر العمل المنتج. كلما استطاع الإنسان تحويل طاقته الداخلية إلى فعل نافع، انخفض التوتر واتجه نحو توازنه، ونمت شخصيته وازدادت بصمتها في الحياة. ولهذا يركز إقبال على ضرورة وجود توتر محفّز يبعث في الذات إرادة الحركة، ويقودها نحو الإبداع والعمل والارتقاء.
     ويمتد هذا الفهم ليصبح معيارًا يقيس به الإنسان الخير والشر، الحسن والقبح، ويحدد من خلاله مدى وعيه بذاته وباضطراباتها الداخلية. إذ تظهر هذه الحالات في صور متعددة: خوف، ألم، رغبة، أمل، حب، طموح، أو حتى مواجهة للظلم والوجع. وتتحرك جميعها نحو توازن يحقق نمو الشخصية واتساعها.
     وتبقى قصيدة حديث الروح نافذة تجمع بين الفكر والفن، وتسمح للمتلقي بأن يتلمس تلك الرحلة التي يخوضها الإنسان بين العالمين: عالم الضمير وعالم الصوت، بين الفكرة حين تتجلى، والروح حين تتحرك. ولعلّ ما أنشدته أم كلثوم من أبيات إقبال خير دليل على هذا التناغم بين الوجدان والفلسفة، وعلى قدرة الفن الراقي على حمل الإنسان إلى مدارات أعمق من الفهم والتأمل.