الأفكار القاتلة…
الدكتور جاسم السلطان
يقول الله تعالى:
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
تتحدث هذه الآية عن لحظة مفصلية في تاريخ بني إسرائيل، حيث تكشف عن خطورة الانقياد وراء ما نسميه الأفكار القاتلة.
قصة العجل: الفكرة قبل التمثال
بنو إسرائيل عاشوا في المجتمع المصري الفرعوني، حيث عُبد العجل "أبيس" وقُدّس. ومع أنهم أهل رسالات سابقة، وجاءهم نبي عظيم مثل موسى عليه السلام، ورأوا معجزات لا تُحصى: من العصا واليد البيضاء، إلى الضفادع والدم والجراد، وصولًا إلى المعجزة الكبرى حين انشق البحر، ونجا بنو إسرائيل وغرق فرعون… إلا أنهم ما إن غاب نبيهم عنهم قليلًا، حتى عادوا إلى عبادة العجل.
المشكلة لم تكن في "عجل" مصنوع من ذهب، بل في الفكرة التي استقرت في عقولهم ولم يراجعوها. الفكرة التي سكنت اللاوعي، فحوّلت كل تلك المعجزات إلى مجرد ذكرى عابرة.
الأفكار القاتلة في التاريخ البشري
لم يكن بنو إسرائيل وحدهم من وقعوا في أسر "العجل". البشرية عبر تاريخها الطويل حملت أفكارًا مشابهة:
بحر الظلمات: لقرون طويلة، خاف الناس من الإبحار غربًا خوفًا من الغرق في "بحر الظلمات". إلى أن تجرأ كولومبوس فاكتشف أن الغرب يحمل أراضي جديدة، لا نهاية الظلام.
رسالة الرجل الأبيض: خرج الأوروبي وهو يعتقد أنه آخر سلسلة التقدّم البشري، وأن بقية الشعوب دونية لا تستحق الحياة. هذه الفكرة البسيطة قادت إلى مذابح واستعمار دموي.
سلطة أرسطو: الغرب عاش أكثر من عشرة قرون يقدّس ما قاله أرسطو، ويعتبر أن كل علم بعده لا يساوي شيئًا. وهكذا تحولت الفكرة إلى سلطة عطّلت العقول.
هذه كلها نماذج لعجول جديدة حملها البشر في عقولهم، فقيّدت مسارهم وأخرت تطورهم.
خصائص الأفكار القاتلة
الأفكار القاتلة قد تكون عقائد فاسدة، أو مسلّمات مغلوطة، أو مناهج تفكير معطوبة. خطورتها أنها:
- تبدو صحيحة لحظة ما.
- تُعتبر مقدسة، غير قابلة للنقاش.
- تستمد قوتها إما من قدمها، أو من كثرة من يردّدها.
لكن الحقيقة أن سلامة الفكرة تُعرف من مناقشتها في ذاتها، لا من قِدمها أو انتشارها.
العبرة من قصة العجل
لو أن بني إسرائيل امتلكوا الحصافة الكافية لمناقشة فكرة عبادة العجل، لوضعوا علامة استفهام بسيطة عليها، ولبدأوا نقاشًا عقليًا جادًا يقودهم إلى الحقيقة. لكنهم خضعوا لسلطة الفكرة القاتلة.
وهكذا الإنسان عمومًا: ابن أفكاره. أفكاره تشكّل سلوكه وعلاقاته ومصيره. فإذا وُجد "العجل" في داخله، سيتجسد خارجه في واقع معاش.
سؤال الحاضر
كيف يراقب الإنسان هذه "العجول" التي تتجول في عقله؟
كيف يمارس رقابة صارمة على أفكاره، وينتبه لخطورتها عندما تتحول إلى سلوكيات؟
كيف يمارس رقابة صارمة على أفكاره، وينتبه لخطورتها عندما تتحول إلى سلوكيات؟
هذه ليست قضايا يسيرة. إنها جوهر عمل الإنسان وعقله ورؤيته للحياة.
نحو عصر جديد
الأمة العربية والإسلامية مقبلة - بإذن الله - على عصر جديد. وفي مثل هذه اللحظات التاريخية تُكشف "الأفكار القاتلة" ليتحرر الناس منها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مراجعة ما نحمله عن العقائد، والفلسفات، والتاريخ، وحياة الناس، والأمم والمجتمعات.
إنها "العجول" الكامنة في العقول، التي قد تمنعنا من التقدم، ما لم نمتلك الشجاعة لمناقشتها ونقدها.
﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾