وقفتُ عند حياة المفكّر السياسي نجم الدين أربكان أتأملها بعمق، وأطيل النظر في هذه الشخصية الفذّة، فالتفتت عيني إلى مقالتي السابقة "من الحيرة إلى الفاعلية - أربعة محاور لبناء الذات"، فوجدته خيرَ مثالٍ على كثيرٍ مما ذكرتُ من عناصر الإرادة المسؤولة المبدعة.
السعي إلى التفوق
بدأ أربكان طالبًا مجتهدًا يرى في التفوّق هدفًا، لا النجاح فقط، وذكّرني هذا بنصيحة مصطفى صادق الرافعي لأبنائه: "يا أبنائي، نحن لا نسعى للنجاح، بل إلى التفوّق"، وبقي متفوّقًا حتى أصبح الطالبَ الوحيد في جامعته الذي حقّق تفوّقًا غير مسبوق ولا ملحوق.
واتّخذ من تخصّصه طريقًا للنهوض ببلده تركيا، حيث تعلّم من الألمان الصناعة الميكانيكية الثقيلة كالمحرّكات وغيرها، وسعى لإقناع رؤوس الأموال الأتراك بالاستثمار فيها وفتح المصانع لصناعة المحرّكات والسيارات، ونجح في كثيرٍ منها. ولما ضُيّق عليه في غرفة الصناعة من قِبَل الجهات المتضرّرة من هذه المنجزات القومية، توجّه إلى عمق القرار المؤثر في الدولة، ألا وهو السياسة، فأسّس عددًا من الأحزاب المتتالية، فكان كلما أُغلق له حزبٌ فتح آخر بمسمّى جديد ورؤيةٍ تبني على المنجزات القديمة وتتطوّر وتبدع. ولم يتسرّب اليأس إلى قلبه قط، ولم يتوقّف عند أوّل عقبةٍ أو تحدٍّ، بل جعل من حياته كلّها نهجًا للعمل من أجل دينه ووطنه، حتى وافته المنيّة عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عامًا.
التحديات
وربّ قائلٍ يريد أن يقلّل من التحدّيات التي واجهها أربكان، مدّعيًا أن طريقه لم يكن بالصعوبة التي تجعل الإنسان ييأس، ولإبطال هذا القول سأصف لك الجوّ المحيط بمسيرته ضمن حقولٍ متنوّعة: الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والعالمي، وغيرها، لتُبصر حجم العقبات والمصاعب التي واجهها، وصبر عليها، وبقي موجّهًا همّته نحو هدفه.
في الاقتصاد:
- كان الغرب متحكمًا في اقتصاد تركيا، فواجه اللوبي المالي الغربي داخلها.
- مُنع من إنشاء مؤسسات مالية إسلامية مستقلة.
- عُطّلت مشاريعه الاقتصادية الإسلامية، وضُيّق على مصادر تمويله.
في السياسة:
- أسّس خمسة أحزاب متتالية بسبب الإغلاق المستمرّ لأحزابه لأسباب مختلفة.
- عندما سنحت له الفرصة لتشكيل الحكومة، جرى التلاعب لإبعاده عن المنصب.
- واجه وصاية الجيش والعَلمنة المفروضة على الدولة.
- تعرّض لانقلاب الجيش عليه مرتين.
- عانى من ضعف البنية الحزبية الإسلامية داخل البرلمان.
في الجانب الاجتماعي:
- انقسامٌ حادّ في المجتمع بين تيارٍ علماني غربيّ وتيارٍ إسلاميّ صرف، ما عرقل التجذّر الشعبي لمشروعه.
- حُرمت المحجّبات من دخول الجامعات والعمل في مؤسسات الدولة.
- انتشار التعليم الرسمي الخالي من المرجعية الإسلامية.
- رأت بعض الطرق الصوفية في مشروعه تهديدًا لاستقرارها.
- الانقسام داخل التيار الإسلامي نفسه، وبالتالي داخل الحاضنة الشعبية للأحزاب.
في النطاق الإقليمي:
- لم يجد في ذلك الوقت دعمًا لمشروعه العابر للحدود من الدول الأخرى بسبب السيطرة الغربية.
- وبحكم وجود تركيا في حلف الناتو، شجّعت الولايات المتحدة الطبقة العسكرية على التضييق عليه ثم تنحيته وتقويض مشروعه.
في النطاق العالمي:
- هيمنة النموذج الأمريكي الليبرالي الذي رأى في مشاريع أربكان خرقًا للنظام العالمي الجديد.
- العداء الأيديولوجي للإسلام من قِبل كثيرٍ من القوى العالمية.
في النطاق الإعلامي:
- شنّ عليه الإعلام العلماني المخالف حملات تشويه شرسة، متهمينه بالرجعية والتخلّف، وسعيه لأسلمة الدولة، مع تخويف الناس من "دولة الشريعة".
محاور بناء الذات الأربعة
ولو أنزلنا تجربة نجم الدين أربكان على محاور بناء الذات الأربعة: (إصلاح الوعي والفكر، تنشيط الفاعلية والعمل، تجديد المعرفة والمهارة، تثمين دور القيم)، لوجدناه قد أخذ من كلّ منها بحظٍّ وافرٍ ووعيٍ متيقّظ.
- فهم الواقع بعمق: قام بدراسة واقع الاقتصاد التركي والسياسة الداخلية وفهمهما جيدًا.
- تعلّم التفكير النقدي: قدّم بدائل واقعية تحلّ مكان النماذج الاقتصادية والسياسية القائمة.
- كوَّن رؤية ذاتية للحياة: انطلق من تصوّر يرى أن الاقتصاد الناجح يصنع مواطنًا صالحًا ومنتميًا.
- انفتح على الأفكار والعالَم: تعلّم في ألمانيا وتدرّب على خبرتهم وسعى لتبادل المعرفة من خلال مشاركته الإبداعية.
- العمل بالممكن والانطلاق منه: لم يطلب في التغيير مساحات الصدام والعنف، بل عمل ضمن الممكن الواقعي القابل للتفاعل.
- التعامل مع الإيجابيين: كوّن مجموعة من الشباب المؤمنين بإمكانية الإصلاح وقرب تحقيقه بالعمل الجاد.
- جعل التحديات فرصًا: اتّصف بأنه يقدّم حلولًا جريئة كانت تُعدّ خيالًا، لكنها تحقّقت بسعيه وسعي من تبعه.
- المبادرة: لم ينتظر غيره ليبدأ الإصلاح، بل قدّم الرأي والاقتراح والدراسة والخطة العملية الواقعية.
- تعلّم مهارة يحتاجها العصر: درس الهندسة الميكانيكية وأبدع فيها، وله مساهماتٌ أفاد منها الألمان أيضًا، ثم نقل خبرته إلى تركيا، خاصة في صناعة المحركات.
- التركيز على التعليم الذاتي: لم يكتفِ بالدراسة الأكاديمية وأستاذيّته الجامعية، بل واصل الإبداع بالقراءة والبحث الذاتي.
- تحصيل العلوم المتنوعة: وسّع معرفته في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ وغيرها.
- دخول الثورة الرقمية: شارك في الإعلام الرقمي والصحف الإلكترونية في وقته.
- الحفاظ على التوازن النفسي:
مثالان؛ الأول: عندما كان في السجن، كان رفقاؤه يتناجون حول نوع الأحكام التي ستصدر بحقهم وهل هي الإعدام أم غيرها، أما هو فكان يفكر بالمهام التي يتوجب عليهم عملها حال الخروج.
الثاني: عندما نُحي عن رئاسة الوزراء مع أحقيته بها، لم ينزعج وقال: سننظر وننتظر، ولم ينفعل ولم يغضب.
الثاني: عندما نُحي عن رئاسة الوزراء مع أحقيته بها، لم ينزعج وقال: سننظر وننتظر، ولم ينفعل ولم يغضب.
- الوعي بالزمن كعامل تغيير: عوّل على الزمن في التغيير، ومنح الأحداث حقّها من الطول والقصر، كما في حادثة قبرص حين أمر بإنزال جوي عاجل لحماية الأتراك هناك، فكان مصدر فخر لبلاده.
- القدوة: كان من أكثر الشخصيات السياسية التزامًا وانضباطًا، وبقي طول حياته قدوةً ومُلهمًا لشركائه ومحبيه وحتى مخالفيه.
وفي الختام، لا بدّ للشباب أن يدركوا أن بناء الذات المكينة في مجال التخصّص أمرٌ مصيريّ للنجاح الذاتي ولتمثيل أيّ دورٍ حقيقي في الشأن العام. أمّا الفاشلون والمتفيهقون في الكلام فلا أثر لهم ولا ثمر، حتى لو أصبح للتفاهة زبائن وامتلأ العالم بها؛ فالحقيقة الثابتة أنّ التغيير والإصلاح لهما سُبُلُهما المعروفة: التعلّم، والتمرس، والتمهّر.