يرى كثير من الشباب اليوم في ظل هذا الواقع المخيف - الذي لم يترك بلدًا إلا بث فيها ويلاته وشياطينه من الحروب والفقر والجوع والمرض والبطالة والغلاء والخوف - أن أحلامهم تتبدد وتزول، وفي أحسن الأحوال هذه الأحلام أن تبقى كما هي أحلاما في النفس بلا وجود خارجي يجعله يلمسها بيديه.
ولا شك أن هذا الشعور المرعب الذي يسكن شبابنا اليوم يستدعي توليد شعور مضاد، يخفف من وطأة الويلات ويبث الأمل في النفوس، وأرى أن خير وسيلة لدفع الشعور باليأس هو مواجهة هذا الشعور بواقع أعمال الشخصيات المعروفة بالإنجاز سواء كانت من المصلحين أو المخترعين والمكتشفين أو المبدعين، فسيرة حياتهم تظهر بجلاء أنه لم يكن أحد منهم يحلم وينجز حلمه إلا في ظل نفس هذه الويلات والتحديات، فلم تكن دائرة الراحة متاحة لأحد، كانت كل أنواع المخاوف تترصدهم وتريد أن تفتك بهم وبأحلامهم، ولكنهم صانوا هذه الأحلام وحفظوها بكل ما لديهم من عقل وقوة وأمل.
ولو تدبرت في حياة المصلحين -مثلا- لوجدت أن فرص النجاح تكاد تكون معدومة في البدايات، ثم لا تلبث الحلقات الضيقة أن تتسع وتنحل قليلًا ثم ينبلج الضياء ويملأ الدنيا ويتحقق الحلم، وكذلك المخترعين والمكتشفين كم من التجارب الفاشلة وكم من الأعداء والحاسدين الذين لا يريدون لك أن تنجح، إنهم كثير وفي كل مكان، ولكننا نبصر اليوم آلافًا مؤلفة من براءات الاختراع والاكتشاف التي غيرت حياة الدنيا فأصبحت الأحلام واقعا يعتاش عليه الناس.
إن التجارب الناجحة التي كانت بداياتها لا تبشر إلا بالفشل ملء السمع والبصر، ونذكر بعضًا منها على سبيل البشرى وتعزيز النظرة الإيجابية للحياة:
- في باب السياسة والتحرر من الاحتلال والاستغلال نجد التجربة الجزائرية، فبعد احتلال دام 130 سنة تعود الجزائر لتتحرر، وبعد أن ظن الفرنسيون أن الجزائر باتت الحديقة الخلفية لفرنسا، وبعد أن نشأ ثلاثة أجيال من المحتلين الفرنسيين في الجزائر، وقل مثل ذلك في احتلال الصليبيين لأجزاء كبيرة من بلاد الشام وغيرها.
- في باب الأدب والثقافة نجد الكاتب نجيب محفوظ يشق طريقه في مسار عادي جدًا لا تجد فيه تشجيعًا كثيرًا، بل ربما تكون قيود الكتابة والترصد لكل خطأ تحيط به، ولكنه حافظ على رتابة مشوار الكتابة وحولها إلى عمل له وقته المنتظم الخاص، وبعد عشرات السنين من تراكم الإنتاج والإبداع يحوز على نوبل للآداب، وحق له.
- في باب الإصلاح الديني والتربوي والدعوة نجد الشيخ عبد الحميد بن باديس مع جمع قليل من المربين يشقون طريقهم خلال كل قوانين المستعمِر الضيقة من جهة وخلال العقول المقلدة الجامدة وخلال المجتمع الرافض للتجديد والمسلِّم بالواقع البائس باعتباره قدرًا إلهيًا لا يرفَع، وأمام كل هذه المواجهات والتحديات تتأسس جمعية العلماء المسلمين وتفتح المدارس والمراكز لتعليم البنات والأولاد ، وتبث روح الإسلام والعروبة فتيةً من جديد في الصدور.
- في باب الاختراعات لا تستطيع أن تتجاوز أديسون وإصراره على النجاح بعد مرات الفشل التي لا تعد ولا تحصى، وقيل عشرة آلاف تجربة فاشلة قبل أن تنجح الأخيرة، ومثله جيمس دايسون الذي روي عنه أنه صنع أكثر من خمسة آلاف تصميم للمكنسة الكهربائية قبل أن يجد النموذج الناجح للمكنسة.
- في باب الرعاية والدعم نجد مريم الأفغاني (أم إياد) صانعة أمل في أصعب بيئة، فهي سيدة فلسطينية أسست مشاريع دعم تعليمي وتطوعي في مناطق محاصرة، رغم الفقر والخوف وانعدام الأمان. وطورت مبادرات شبابية ملهمة، ومنحت جيلًا كاملًا فرصة لاستعادة الثقة والأمل.
- في باب إبداع المحتوى الهادف على مواقع التواصل الاجتماعي لن أذكر لك شخصًا معينًا، فهناك عشرات الآلاف من الناجحين والملهمين الذي استطاعوا النجاح من خلال عرض الأفكار الجديدة أو الوسائل المبدعة أو بالأسلوب اللبق والرائق أو تبسيط الأفكار وتقريبها.
ولنا بعد ذلك أن نكتشف بعض طرق صون الحلم وتربيبه حتى يَشِب ويشتد عوده، فلا يقوى أحدٌ على دفعه وتبديده فيتحقق، ومن هذه الطرق نجد:
- من قاموا بربط أحلامهم بشيء لا يمكن أن يتبدد ألا وهو الواجب والرسالة، وبذلك ارتقى حلمهم إلى مقام المهمة الاستخلافية، ولم يعد الحلم رغبة فقط يمكن أن تدفعها رغبة أخرى.
- ومنهم من أضفى على حلمه عناصر واقعية، تأخذ بحسبانها إكراهات الحياة وحدودها ومدافعتها، فجعل الصبر قرين عمله.
- ومنهم من ربط ربطًا مصيريًا بين تحقيق حلمه وتحقيق حياة رغيدة وكريمة لأحبائه، فتحولت إرادته من الضعف والخوف إلى القوة والمواجهة، ولم يترك لنفسه فرصة للتراجع عن حلمه.
- ومنهم من بحث عن وسط أو بيئة من الأفراد الثقات تعينه على تحقيق حلمه، حيث الإيمان والثقة مدد لا يجف ولا يبلى.
- ومنهم من جعل نصب عينيه شخصية ناجحة وقدوة له في حلمه، يتعلم منه ويحصل من المعارف ما يبلغه فيه إلى حلمه.
اعلم أيها الشاب أن غالب من تبصره من حولك من الناس عندهم من الهموم والمشاكل والابتلاءات ما الله به عليم، وأن لهم أحلامًا مثلك، وهم يطاردونها كل يوم يحاولون أن يظفروا بها، فأحيانا يقبضون عليها، وأحايين تفر من بين أيديهم، وهذه هي الحياة فعشها كما هي إن أردت النجاح والفلاح.