هل يجب على مجتمعاتنا أن تختار بين أن تكون حرة أو آمنة؟
هذا السؤال يتكرر كلما تعرّض بلدٌ ما لمخاطر أمنيَّة أو اضطراب اجتماعي أو أزمة سياسيَّة أو تحوُّلات متسارعة. حيث تُرفع حينها شعارات من قبيل: "الأمن قبل كل شيء"، أو على النقيض: "لا صوت يعلو فوق صوت الحرِّيَّة". غير أن هذا الطرح الثنائي الحدّي المبسَّط يخفي خلفه إشكالًا أعمق: هل الحرِّيَّة والأمن متناقضان بطبيعتهما، أم أن المشكلة الحقيقيَّة في طريقة فهمنا وتدبيرنا لهما؟
وخاصة في عالمنا العربي، حيث تتقاطع تحديات الأمن الوطني لبلداننا مع مطالب الانفتاح السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصاديَّة، إذ يصبح هذا السؤال أكثر إلحاحًا، ويستحق معالجة هادئة ومتوازنة، بعيدًا عن الانفعال والشعارات. وهذا ما يحاول هذا المقال تناوله.
أولًا: الحرِّيَّة… ليست من الكمالات، والأمن… ليس ذريعة
حرِّيَّة التعبير والحرِّيَّات العامة ليست كماليات يمكن الاستغناء عنها في زمن الأزمات. فهي الإطار الذي يسمح للمجتمع أن ينتقد، ويصحِّح، ويطوِّر أداء مؤسساته. وحرِّيَّة الصحافة، وحرِّيَّة الاجتماع السلمي، وحقّ تكوين الجمعيات، وحرِّيَّة النشاط السياسي والنقابي والخيري، وحق الأفراد في التعبير عن آرائهم دون خوف من العقاب، كلها أدوات تجعل المجتمع أكثر يقظة، وأكثر تماسكًا وثقة في دولته، وأكثر قدرة على مواجهة الأخطاء والانحرافات قبل أن تتحوَّل إلى أزمات كبرى أو أخطار تهدِّد كيان الدولة والمجتمع.
في المقابل، فإن الأمن الوطني بدوره ليس شعارًا لتزيين الخطب، بل شرط أساسي لاستمرار الدولة وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم. فبلدٌ يغرق في الفوضى أو العنف أو الجريمة المنظمة، لن تتحوَّل فيه الحرِّيَّة إلا إلى شعور نظري لا يتحقق في الواقع؛ لأن الخوف اليومي يلتهم حق الإنسان في العيش الكريم، قبل أن يلتهم حقه في التعبير.
من هنا، يبدو واضحًا أنَّ الحرِّيَّة والأمن ليسا نقيضين في الأصل، بل هما أمران ضروريان متكاملان؛ فالأمن يحمي شروط ممارسة الحرِّيَّة، والحرِّيَّة تضبط استخدام السلطة للقوة باسم الأمن.
ثانيًا: كيف ينشأ التوتر بين الحرِّيَّة والأمن؟
رغم هذا التكامل النظري بين الحرِّيَّة والأمن، فإن التوتر بينهما يظهر بوضوح في الواقع العملي في مواقف معيَّنة. ففي لحظات الخطر والتهديد، كوقوع اعتداءات أو اضطرابات أمنيَّة كبيرة أو مخاطر تهدِّد البلد، تتجه الدول عادةً إلى توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنيَّة، وتشديد المراقبة، وتقييد بعض أشكال التجمُّع أو التعبير تحت عنوان “الضرورة الأمنيَّة”. وجزء من هذه الإجراءات قد يكون مفهومًا لحماية الأرواح والحفاظ على استقرار الدولة، غير أن الإشكال يبدأ حين يتحوَّل هذا الوضع الاستثنائي إلى حالة دائمة، فيصبح التقييد قاعدة، وتُدفَع الحرِّيَّة إلى الهامش باسم الحفاظ على الأمن.
ومن جهة أخرى، قد يُستدعى شعار "حماية الاستقرار" لتبرير التضييق على الحرِّيَّات العامة، ومنع المعارضة السِلميَّة، أو إسكات الصحافة المستقلة، أو تجريم النقد العلني لسياسات الحكومة. وفي هذه الحالة، يتغيّر معنى الأمن نفسه؛ إذ يتحول من وسيلة لحماية المجتمع إلى أداة لحماية السلطة من المجتمع، ويُخلَط بين مَن يعبِّر عن رأيه بشكل سلمي، ومَن يهدد فعليًّا السلم العام. وفي المقابل، لا يخلو المشهد من سوء استعمال لحرِّيَّة التعبير، حيث تُرفَع راية الحرِّيَّة أحيانًا لتبرير نشر خطاب الكراهيَّة، أو التحريض على العنف، أو ترويج الشائعات التي تقوِّض الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، فتتحوَّل الحرِّيَّة من مساحة للنقاش والنقد البنّاء إلى سلاح يهدد تماسك المجتمع وأمنه الداخلي.
وفي ظل هذه الممارسات المتقابلة، لا يعود السؤال المطروح: "هل نحن مع الحرِّيَّة أم مع الأمن؟"، بل يصبح السؤال الصحيح: "من يضع القواعد التي تنظّم المجالين؟ وكيف يمكن ضمان ألا تُستعمَل الحرِّيَّة أو الأمن ضد المجتمع نفسه؟". وهنا تبرز الحاجة إلى وعي جماعي وإطار قانوني ومؤسساتي يميّز بين النقد والتحريض، وبين حماية الدولة وحماية السلطة، حتى لا تُستَغلّ أي من القيمتين لتقويض الأخرى.
ثالثًا: مبادئ لتحقيق التوازن
ولتحويل النقاش من مواجهةٍ صِفريَّة بين الحرِّيَّة والأمن إلى معادلة قابلة للتحقُّق، نحتاج أولًا إلى الاعتراف بأن كليهما قيمة أساسيَّة لا يمكن التضحيَّة بإحداهما لصالح الأخرى. فالتعامل مع الأمن بوصفه قيمة مقدّسة، والحرِّيَّة بوصفها قيمة ثانويَّة، أو العكس، يؤدي في الحالتين إلى وضع مشوَّه؛ لأن الأمن يحمي حياة المواطنين أفرادًا ومجموعات، بينما تحمي الحرِّيَّة كرامة المواطن وصوته وحقِّه في الاختيار. لذلك يحتاج المجتمع إلى مواطن يستطيع أن يخرج من بيته بلا خوف على سلامته، وأن يعبِّر عن رأيه بلا رهبة من العقاب.
وعندما تفرض الظروف الاستثنائيَّة بعض القيود المؤقَّتة على الحرِّيَّات، فإنَّ هذه القيود لا تكون مشروعة إلا إذا احترمت مبدأ الضرورة والتناسب؛ أي أن تُفرض لمواجهة خطر حقيقي ومحدَّد، وأن تكون محدودة بقدر ما يتطلبه دفع هذا الخطر، وأن تُقيَّد في الزمن بحيث تنتهي بانتهاء أسبابها، وأن تخضع لرقابة قضائيَّة ومؤسساتيَّة مستقلة حتى لا تتحوَّل إلى حالة دائمة تُستعمَل لتبرير خنق المجال العام وإهدار كرامة الناس وحرِّيَّتهم. وفي هذه الحالة يبقى الأصل هو الحرِّيَّة، ويظلُّ التقييد استثناءً يُقبل فقط ما دام واضح الحدود والمدَّة والغايَّة.
ويكتمل هذا التوازن بوجود قضاء مستقل قادر على حماية القانون من ضغط السياسة ومن ضغط الشارع في آنٍ واحد، فيميِّز بين المعارضة السلمِيَّة في إطار القانون لتوَجُّهات السلطة وممارساتها، وبين المحرِّض على العنف أو التشكيك في الدولة، وبين النقد المشروع وبين الإساءة المتعمّدة للأمن العام، وبوجود إعلام مهني لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يتحرى ويدقِّق ويتجنَّب الانجرار وراء خطاب الشائعات والكراهية، فيجعل من حرِّيَّة الصحافة عنصرًا يعزّز الثقة والأمن بدل أن يقوّضهما. وإلى جانب ذلك، تبرز أهميَّة التربية على المواطنة واحترام الاختلاف؛ فمجتمع لم يتعلم أفراده آداب الحوار، واحترام الرأي المخالف، والتمييز بين نقد الفكرة وإهانة صاحبها، والاحتكام إلى القانون عند الخلاف، لن يعرف حرِّيَّة ناضجة ولا أمنًا مستقرًا. فالتربية الاجتماعيَّة السليمة تُنتج مواطنًا يدافع عن حقِّه في التعبير، لكنَّه يدرك في الوقت نفسه أنَّ حريَّته تقف عند حدود حقوق الآخرين، وأنَّ وحدة المجتمع واستقراره ليست ساحة للتجريب أو المغامرة والتلاعب.
رابعًا: غياب الحرِّيَّة خطر أمني مؤجّل
ولكن إذا تأمَّلنا في العلاقة بين غياب الحرِّيَّة والأمن على المدى البعيد، سنكتشف أن تقييد الحرِّيَّات ليس ضمانة للاستقرار كما يُروَّج له أحيانًا، بل قد يكون بذرة لتوترات عميقة مؤجَّلة الانفجار. فحين يُمنَع الأفراد من التعبير عن آرائهم ومطالبهم بصورة سلميَّة وعلنيَّة، لا تختفي هذه الآراء، بل تنتقل إلى الخفاء، وتتحوَّل من مواقف قابلة للنقاش إلى قناعات مكتومة تتغذَّى من الإحساس بالظلم والإقصاء. ومع الزمن، يتراكم هذا الشعور إلى درجة يصبح فيها أي شرارة كفيلة بإشعال غضب جماعي يصعب احتواؤه.
فإغلاق فضاءات التعبير السلمي، من صحافة مستقِلَّة وجمعيات مدنيَّة وأحزاب سياسيَّة ومنابر حوار، يدفع بعض الفئات إلى البحث عن قنوات بديلة خارج الإطار المؤسسي. وفي هذا الفراغ، تنشط الخطابات المتطرِّفة، سواء كانت ذات طابع ديني أو أيديولوجي أو عرقي، وتجد في الإحباط والانسداد السياسي أرضًا خصبة للتجنيد والاستقطاب. وبذلك، يتحوَّل ما كان يمكن معالجته في إطار نقاش عام مفتوح إلى نزعات راديكاليَّة ترى أنَّ التغيير لا يمكن أن يتم إلا عبر صدام حاد مع الدولة أو المجتمع.
ثم إنَّ غياب الحرِّيَّة يضرُّ بثقة المواطن في مؤسسات بلده. فعندما يشعر الفرد أنَّ صوته لا قيمة له، وأنَّ الشكوى لا تَصِل، وأنَّ النقد يُواجَه بالعقاب بدل الإصلاح، تتآكل لديه تدريجيًا فكرة الانتماء المشترك. وهذا الضعف في الشعور بالمواطنة يُترجَم عمليًّا في صورة لا مبالاة بالشأن العام، أو انسحاب من الفضاء السياسي، أو في أقصى الحالات استعداد للتعاطف مع أي قوَّة تُظهِر نفسها كبديل عن الدولة، حتى لو كانت هذه القوَّة تُهدِّد الأمن الوطني نفسه. وبهذا المعنى، يتحوَّل القمع من وسيلة افتراضيَّة لحماية الدولة إلى عاملٍ يسحب منها شرعيَّة وجودها في وعي جزء من مواطنيها.
إلى جانب ذلك، فإن غياب حرِّيَّة التعبير والصحافة والبحث المستقل يمنع الكشف المبكر عن بؤر الخلل والفساد التي تهدِّد استقرار الدولة من الداخل. ففي الأنظمة التي تُكمَّم فيها الأفواه، لا تظهر المشاكل إلا بعدما تستفحل، لأنَّ المراقبةَ الشعبيَّة غائبة، والمعلومةَ محصورة، والنقدَ الحرَّ ممنوع. وبدل أن يكون التعبيرُ الحرُّ والإعلامُ شريكًا في حماية الأمن عبر تنبيه المسؤولين إلى مكامن الخطر، يتحوَّل إلى أداة دعايَّة تُخفي المشكلات أو تلمِّعها، فيُترَك البلد يسير نحو أزمات كبرى دون إنذار مبكر.
كما أنَّ المجتمعات التي تحرم مواطنيها من حرِّيَّة التنظيم والتعبير السلمي تفقد أدوات ثمينة لإدارة الأزمات من غير عنف. فالنقابات والأحزاب والجمعيات والمنتديات الفكرِيَّة يمكن أن تؤدِّي دور صمَّامات أمان، تعبِّر من خلالها الفئات المختلفة عن مطالبها، وتتفاوض مع الدولة، وتبحث عن حلول وسط، بدل أن تتراكم المشكلات بلا قنوات لتصريفها. فحين تُغلق هذه الصمامات، تصبح كل مشكلة اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة أو سياسيَّة مرشَّحة للتحوُّل إلى انفجار، لأن الطريق المؤسَّسِي لتدبير الخلاف مسدود.
لهذه الأسباب، يصبح واضحًا أن التضحية بالحرِّيَّة بحجَّة حماية الأمن ليست استراتيجيَّة ناجعة، بل وصفة لاستقرارٍ هشٍّ يقوم على الصمت والخوف لا على القناعة والرضا. فالاستقرار الحقيقي هو ذاك الذي يقوم على عقدٍ غير مكتوب بين الدولة والمجتمع: دولة تحترم حقَّ الناس في الكلام والتنظيم والمساءلة، ومجتمع يدرك أن حرِّيَّته لا تعني الفوضى، وأنَّ مسؤوليته لا تقلُّ عن مسؤوليَّة السلطة في حماية بلده من الفتن والعنف والانهيار. حينها فقط تصبح الحرِّيَّة عامل قوة للأمن، لا خطرًا مؤجَّلًا عليه.
خامسًا: نحو عقد اجتماعي جديد بين الحرِّيَّة والأمن
عندما نتحدَّث عن صياغة علاقة متوازنة بين الحرِّيَّة والأمن، فنحن في الحقيقة نتحدث عن الحاجة إلى نوع من التفاهم العميق بين الدولة والمجتمع؛ تفاهم يمكن تشبيهه بـعقد اجتماعي جديد، حتى لو لم يُكتب في وثيقة رسميَّة. جوهر هذا العقد أن يُدرك الطرفان أنَّ كل محاولة لفرض الأمن على حساب الحرِّيَّة ستؤدي في النهاية إلى أمنٍ شكليٍّ هشٍّ، وأنَّ كل مطالبة بحرِّيَّة منفلتة من أي إطار قانوني أو أخلاقي ستتحوَّل إلى تهديد حقيقي للاستقرار. وبهذا المعنى، يتحوَّل النقاش من صراع بين حقِّ الدولة وحقِّ المواطن، إلى بحث مشترك عن الصيغة التي تجعل كرامة المواطن وأمن الوطن وَجهَيْن لعملة واحدة.
والنقطة الأولى في هذا العقد الضمني هي الاعتراف المتبادل بأنَّ المواطن شريك في صناعة الأمن نفسه. فالمواطن الذي يشعر أنَّ صوته مسموع، وأن اعتراضه السلمي لا يعرِّضه للتخوين أو العقاب، يكون أكثر استعدادًا للتعاون مع مؤسَّسَات بلده، وأكثر قابليَّة لتفهُّم الإجراءات الاستثنائيَّة عندما تفرضها الظروف. وفي المقابل، تدرك الدولة أن الاستثمار في كرامة الإنسان وثقته بالمؤسَّسَات هو استثمار مباشر في أمنها واستقرارها.
هذا العقد يحتاج أيضًا إلى قوانين واضحة وعادلة، تضع الحدود الفاصلة بين ما يدخل في إطار حرِّيَّة التعبير المشروعة وما يتحوَّل إلى تحريض على الكراهية أو دعوة إلى العنف، وتحدِّد في الوقت نفسه ما يدخل في إطار حماية الأمن الوطني وما يتحوَّل إلى تبرير للتضييق على المجال العام. فوضوح القاعدة القانونيَّة يمنع الالتباس، ويغلق الباب أمام الاستخدام الانتقائي للقانون بحسب الظروف أو المصالح، ويمنح المواطن شعورًا بأنَّ حقوقه ليست رهينة مزاج شخص أو جهة، بل محمِيَّة بنصوص مضبوطة وآليات رقابة فعَّالة.
ولا يمكن لعقد اجتماعي من هذا النوع أن يقوم في ظلِّ مؤسسات ضعيفة أو تابعة بالكامل لإرادة السلطة التنفيذيَّة. فوجود أجهزة أمنِيَّة قويَّة لا يعني إطلاق يدها بلا ضوابط، بل يعني امتلاكها ما يكفي من الاحترافيَّة والوسائل القانونيَّة للقيام بواجبها دون انتهاك حقوق الأفراد. ووجود قضاء مستقل يعني أن النزاعات بين المواطن والدولة لا تُحسَم بميزان القوة، بل بميزان القانون. كما أن برلمانًا حقيقيًا وإعلامًا مستقلًا ومجتمعًا مدنيًا نشطًا هي مكونات أساسيَّة لأي منظومة تريد أن توازن بين الحرِّيَّة والأمن دون أن تنحرف نحو الاستبداد أو الفوضى.
وعليه، فإن جزءًا مهمًّا من هذا التوازن يقوم على توسيع مشاركة المواطنين في صياغة السياسات العامة، وليس استدعاؤهم عند لحظات التصويت أو الأزمات فقط. فكلَّما شعر الناس أنهم شركاء في تحديد الأولويَّات، وفي مناقشة القوانين التي تمسُّ حياتَهم اليوميَّة وحرِّيَّاتهم الخاصة، زادت قابليتهم للتضحية بجزء من راحتهم أو بعض قيود حرِّيَّتهم في لحظات الخطر الحقيقي. عندئذٍ لا يبدو أي إجراء استثنائي كأنه قرار مفروض من أعلى، بل كخيار جماعي متفهم، يمكن قبوله ومراجعته ومحاسبة من اتخذه إذا تجاوز حدوده.
ويبقى البعد الثقافي والأخلاقي عنصرًا لا غنى عنه في هذا المشهد. فعقد اجتماعي كهذا لا يقوم فقط على النصوص والمؤسسات، بل يحتاج إلى ثقافة سياسيَّة جديدة ترى في الحرِّيَّة مسؤوليَّة لا شعارات، وفي الأمن خدمة للمجتمع لا سلاحًا ضدَّه. حين يتكوَّن هذا الوعي، يصبح من الطبيعي أن يدافع المواطن عن حقِّه في التعبير وفي الوقت نفسه عن استقرار بلده، وأن تحرص الدولة على ضبط المجال العام دون إسكاته، وأن يكون السؤال الدائم: كيف نحمي بعضنا بعضًا، لا كيف ينتصر طرفٌ على آخر. عندها فقط ينتقل الحديث عن الحرِّيَّة والأمن من مستوى الجدل المؤدِّي إلى الاهتلاك، إلى مستوى المشروع المشترك القابل للبناء خطوة خطوة.
خاتمة
في ضوء هذا النقاش حول الحرِّيَّة والأمن، يتَّضح أن الإشكال ليس في وجود تناقض جوهري بينهما، بل في الكيفيَّة التي تُدار بها العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي نوع الثقافة السياسيَّة والقانونيَّة التي تحكم هذه الإدارة. فالرهان لم يعد سؤالًا مبسّطًا من قبيل: هل نريد مجتمعًا حرًّا أم مجتمعًا آمنًا؟ بل أصبح سؤالًا أكثر تركيبًا: كيف نبني نظامًا يسمح للإنسان أن يعيش آمنًا في ذاته ومعاشه، من دون أن يُطلَب منه أن يدفع ثمن ذلك من صوته وكرامته وحقه في المشاركة في الشأن العام؟
والتجارب المتراكمة تُظهر أن الأمن الذي يُفرض بالقوَّة على حساب الحرِّيَّات لا ينتج استقرارًا متينًا، بل يراكم تحت السطح غضبًا مكتومًا وشعورًا بالظلم واهتزازًا في الثقة، سرعان ما يتحول إلى تهديد أعمق للأمن نفسه. وفي المقابل، فإنَّ حرِّيَّة التعبير حين تُمارَس خارج أي إطار قانوني وأخلاقي ومؤسّساتي، وحين تتحوَّل إلى غطاء للفوضى أو التحريض أو تدمير الثقة في كل شيء، فإنها تفقد مضمونها البنائي وتصبح أداة لتمزيق النسيج الاجتماعي.
من هنا تأتي الحاجة إلى توازن واعٍ يقوم على عقد ضمني جديد؛ دولة تعترف بحقِّ الناس في النقد والتنظيم والمساءلة، وتقبل بأنَّ قوتها الحقيقيَّة تُقاس بقدرتها على تحمّل الصوت المختلف لا بإسكاته؛ ومجتمع يدرك أنَّ الحرِّيَّة مسؤوليَّة قبل أن تكون امتيازًا، وأنَّ حماية الوطن واجب مشترك لا يُختزَل في أجهزة الأمن وحدها. في هذا الأفق، تصبح القوانين العادلة، والمؤسسات المستقلة، والثقافة المدنيَّة الناضجة، أدوات عمليَّة لترجمة هذا العقد إلى واقع ملموس.
وعندما نصل إلى لحظة يصبح فيها المواطن مطمئنًا إلى أن صوته لا يُسكت، وأن أمنه لا يُساوَم عليه، وأن القانون يحميه من تعسُّف السلطة كما يحمي المجتمع من تعسُّف الأفراد، يمكن عندها القول إنَّنَا قادرون على تجاوز الجدل العقيم بين أيُّهما أَوْلَى؛ الحرِّيَّة أم الأمن، ونتجه إلى أن يتكاملا وأن ينتصر الإنسان المواطن بوصفه محور هذه المعادلة وغايتها.
* * *