الحق المر - الجزء الأول

الحق المر - الجزء الأول
     يُعد كتاب "الحق المر" بمجموع أجزائه، وبالأخص الجزء الأول منه، صرخةً فكرية ودعوية أطلقها الشيخ محمد الغزالي في وجه الركود الفكري والتدين المنقوص الذي رآه يهيمن على واقع الأمة الإسلامية. الكتاب في أصله مجموعة مقالات كتبها الغزالي بمداد من الألم والأمل، محاولاً فيها تشريح الأدواء التي أصابت العقل والقلب المسلم، بأسلوب يجمع بين أدب الكاتب وغيرة المصلح.
 

1. لماذا هو "حق مر"؟
يستهل الغزالي رؤيته بالتأكيد على أن مواجهة النفس هي أصعب أنواع المعارك. سماه "الحق المر" لأن الحقيقة التي يسردها قد لا ترضي العاطفة العامة، فهي تكشف العورات الفكرية والسلوكية للمسلمين. يرى المؤلف أن الداء الحقيقي ليس في نقص النصوص أو الشعائر، بل في سوء فهمها وتطبيقها، وأن الدواء يتطلب شجاعةً في الاعتراف بالخطأ، وهو أمر يتسم بالمرارة لكنه ضروري للاستشفاء.

2. التدين الشكلي مقابل جوهر الإيمان
من أبرز القضايا التي يطرحها الكتاب في جزئه الأول هي معضلة "التدين الجوف".
- انفصال العبادة عن السلوك: ينتقد الغزالي بشدة أولئك الذين يحافظون على السنن الظاهرة والشكليات التعبدية، بينما تفتقر معاملاتهم اليومية إلى الصدق، والأمانة، وإتقان العمل.
- تقزيم الإسلام: يرى أن البعض حصر الإسلام في جزئيات فرعية وخلافات فقهية عقيمة، متناسين المقاصد الكبرى للدين مثل العدل، والحرية، وعمارة الأرض.
- الدين ليس طقوسًا: يؤكد الغزالي أن الإيمان الذي لا ينعكس أثره في نظافة الشارع، ونظام المرور، وإخلاص الموظف، هو إيمان منقوص يحتاج إلى مراجعة شاملة.

3. العقل المسلم بين التبلد واليقظة
يخصص الغزالي مساحة كبيرة لنقد الحالة العقلية السائدة في الأوساط الإسلامية:
- محاربة الخرافة: يشن الغزالي هجومًا ضاريًا على الخرافات التي التصقت بالدين، وركون البعض إلى "التواكل" باسم "التوكل". يرى أن إهمال الأسباب العلمية والسنن الكونية هو خيانة للمنهج القرآني.
- الجمود الفقهي: ينتقد العقول التي تعيش في الماضي وتجتر حلولاً لمشكلات لم تعد موجودة، بينما تقف عاجزةً عن استنباط حلول لواقع الحياة المعاصر.
- التعليم والتربية: يشدد على أن أزمة المسلمين هي في الأساس "أزمة فكر"، وأن إصلاح التعليم هو الحجر الأساس لاستعادة الشهود الحضاري.

4. نقد الحركات الإسلامية والدعاة
بشفافية عالية، يوجه الغزالي نصائحه وانتقاداته للعاملين في الحقل الدعوي:
- الوعظ السطحي: يعيب على بعض الخطباء انشغالهم بقصص غيبية أو معارك تاريخية منتهية، بينما يعاني الشباب من أسئلة وجودية وفكرية لا يجدون لها إجابة.
- الحماس بلا وعي: يحذر من الاندفاع العاطفي الذي لا يستند إلى بصيرة سياسية أو فهم لواقع موازين القوى العالمي.
- الغرور الديني: ينتقد شعور البعض بالوصاية على الناس أو تزكية أنفسهم، مؤكدًا أن الداعية يجب أن يكون أول من يحاسب نفسه وأكثر الناس رفقًا بالخلق.

5. الإسلام والتنمية: العمل كفريضة
يربط الغزالي في "الحق المر" بين الإيمان والإنتاج الاقتصادي ربطًا وثيقًا:
- ذل التبعية: يرى أن الأمة التي تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع، لا تملك قرارها السياسي ولا كرامتها الدينية.
- إتقان العمل: يطرح مفهومًا مفاده أن الإحسان في الصنعة هو جزء لا يتجزأ من الإحسان في العبادة. الفشل في إدارة المؤسسات أو إهمال التطور التقني يعتبره الغزالي معصيةً تستوجب التوبة.
- محاربة الفقر: يرفض الغزالي تمجيد الفقر كقيمة دينية، بل يراه عائقًا أمام العزة والتمكين، داعيًا إلى نظام تكافلي يحقق العدالة الاجتماعية بفعالية.

6. الموقف من الحضارة الغربية
لا يدعو الغزالي إلى الانغلاق، بل يطرح رؤية متوازنة:
- التمييز بين العلم والقيم: يجب على المسلمين أخذ أسباب القوة والعلوم التجريبية من الغرب بلا خجل، لأنها ميراث بشري مشترك.
- رفض الانبهار الأعمى: في الوقت نفسه، يحذر من ذوبان الهوية الإسلامية في المادية الغربية التي تفتقر إلى الروح والأخلاق.
- التحدي الحضاري: يرى أن الغرب تفوق بالانضباط والبحث العلمي، وهي قيم إسلامية أصيلة ضيعها المسلمون فاستردها غيرهم، والأولى بنا أن نعود إليها.

7. قضايا المرأة والأسرة
يتعرض الجزء الأول لإنصاف المرأة من بعض التقاليد التي لُبست ثوب الدين:
- تحرير المرأة بالدين: يؤكد أن الإسلام جاء ليعزز دور المرأة في بناء المجتمع، وأن تهميشها هو تعطيل لنصف طاقة الأمة.
- التربية الأسرية: يشدد على دور الأسرة في بناء الشخصية السوية التي تحترم الحقوق وتؤدي الواجبات، بعيدًا عن الاستبداد الأبوي أو التحلل القيمي.

دعوة إلى المصالحة مع الذات
ينهي الغزالي طرحه في هذا الجزء بأن الطريق طويل، وأن "الحق المر" ليس المقصود منه اليأس، بل هو "صدمة وعي" ضرورية. إن استعادة الإسلام لحيويته تتطلب جيلاً جديدًا يفهم أن الدين عملٌ لا كلام، وخلقٌ لا طقوس، وعلمٌ لا جهل.
إن كتاب "الحق المر" يمثل وثيقةً نقديةً هامة، تجبر القارئ على التوقف طويلاً أمام نفسه، متسائلاً: هل نحن مسلمون بالوراثة والاسم، أم نحن مسلمون بالوعي والعمل والتحقق بمراد الله في الأرض؟