لماذا تفشل بعض المشاريع النهضوية رغم توفر الموارد؟

لماذا تفشل بعض المشاريع النهضوية رغم توفر الموارد؟
لماذا تفشل بعض المشاريع النهضوية رغم توفر الموارد؟
د. سامر الجنيدي*

في عصر تتراكم فيه الثروات وتتوفر الموارد في العديد من الدول والمجتمعات، يُطرح سؤال ملحّ: 
- لماذا تفشل بعض المشاريع النهضوية رغم وفرة الموارد؟
- لماذا نرى خططًا طموحة، ودعمًا ماليًا ضخمًا، وعقولًا لامعة، ولكن النتيجة في النهاية: إخفاق، تبعثر، أو جمود؟
هذه الأسئلة لا تُطرح بدافع التشاؤم، بل بدافع الفهم، لأن النهضة ليست مجرد "نية حسنة"، بل "علمٌ وفنٌ وسنن كونية" لا تحابي أحدًا.
وهنا أسرد بعض الأسباب: 
1. غياب الرؤية النهضوية المتكاملة
أحد أبرز أسباب الفشل هو أن كثيرًا من المشاريع تبدأ بدون رؤية واضحة، أو برؤية تقنية جزئية لا تنبع من فهم حضاري شامل. النهضة ليست مجرّد تطوير بنية تحتية أو ضخ تمويلات، بل مشروع يتطلب رؤية فكرية متجذرة في الواقع والتاريخ والقيم، وتطلّع نحو المستقبل. الفرق بين بناء "مشروع اقتصادي" وبناء "مشروع نهضوي" هو الفرق بين تشييد مبنى، وتأسيس مدينة حيّة نابضة بالقيم والمعاني.
2. ضعف تأهيل الإنسان الحامل للمشروع
الموارد الحقيقية لأي نهضة ليست المال أو النفط أو المعادن، بل الإنسان الواعي، المؤهل، الشغوف، المنضبط. وبما أن الإنسان هو بداية أي تحوّل، وأن فشل المشاريع غالبًا ما يرتبط بضعف من يحمل المشروع نفسه. إذا لم يُبنَ الإنسان بناءً فكريًا وقيَميًا ومهاريًا، فلن تصنع الموارد وحدها شيئًا. المال في يد غير مؤهلة قد يؤدي إلى الفساد أو التبذير أو مشروعات بلا أثر. وبالتالي نحن بحاجه لبرنامج متكامل لإعداد كوادر النهضة. 
3. غياب القيم المنظمة للسلوك
القيم منظومة تحكم سلوك الأفراد داخل المشروع. حين تغيب قيم مثل الشفافية، الأمانة، الإتقان، التعاون، احترام الرأي، المسؤولية، تظهر مكانها قيم الأنانية، الصراع، التنافس السلبي، والمحاباة. النهضة لا يمكن أن تُبنى على فوضى أخلاقية، مهما توفرت الموارد. لقد رأينا مشاريع ضخمة سقطت بسبب الفساد، أو سوء الإدارة، أو خيانة الأمانة.
4. الارتجال وغياب التخطيط الاستراتيجي
بعض المشاريع تنطلق بدافع العاطفة أو ردة الفعل أو رغبة في الإنجاز السريع، دون خطة استراتيجية واضحة المعالم. الارتجال يحوّل المشروع إلى مغامرة غير محسوبة، مما يؤدي إلى الهدر، أو تضارب الجهود، أو فشل في الاستمرار. النهضة تحتاج إلى تخطيط بعيد المدى، رؤية واضحة، أهداف ذكية، مؤشرات أداء، مراجعات دورية، ومرونة في التعديل.
5. استنساخ النماذج الغربية دون تكييف
كثير من المشاريع تُبنى على نقل تجارب ناجحة من الغرب دون تكييفها مع البيئة الثقافية والاجتماعية والفكرية المحلية. فتصبح النتيجة نموذجًا هجينًا لا ينتمي لا إلى أصله ولا إلى بيئته. النهضة تتطلب حلولًا تنبع من الخصوصية الحضارية، ومن فهم دقيق للسياق المحلي، لا مجرد استيراد أفكار جاهزة.
6. غياب البنية المؤسسية
المشاريع الفردية، مهما كانت عبقرية، تبقى رهينة مزاج أصحابها أو أعمارهم. أما المشاريع المؤسسية فتبقى وتُطوَّر وتُحسَّن، لأنها تُبنى على أنظمة، لا على أشخاص. أحد أسباب الفشل هو أن المشروع لم يُبنَ داخل إطار مؤسسي مرن، منظم، محكوم بالقانون واللوائح، مما يجعله عرضة للانهيار عند أول تحدٍّ.
7. غياب الحريات والبيئة السياسية الداعمة
النهضة لا تنمو في بيئة استبدادية أو خانقة للحريات. حين يُمنع التفكير الحر، ويُقمع الاجتهاد، ويُصادر العمل الجماعي، فإن أي مشروع سيتحول إلى أداة في يد السلطة، لا إلى قاطرة حضارية. البيئة السياسية يجب أن تسمح بالنقد، وتداول السلطة، والمحاسبة، ومشاركة الشعب في القرار. بدون ذلك، فكل الموارد تصبح مجرد زينة ميتة.
8. عدم قراءة الواقع بشكل علمي
بعض المشاريع تنطلق دون فهم عميق لواقع المجتمع، فتصطدم بالثقافة أو العادات أو البنية الاجتماعية. النهضة تحتاج إلى قراءة دقيقة لأسئلة مثل: من نحن؟ ما الذي نملكه؟ ما نقاط قوتنا وضعفنا؟ من هم أصحاب المصلحة؟ ما العقبات الحقيقية في طريقنا؟
بدون هذا التشخيص، تصبح المشاريع شبيهة بوصفات علاج خاطئة لمرض غير مُشخّص.
9. انفصال المشروع عن القاعدة الشعبية
نهضة بلا حاضنة شعبية، تبقى فكرة نخب فوقية. المشاريع الفاعلة هي التي تنزل إلى الناس، وتشاركهم، وتُعبّر عن آمالهم، وتُشركهم في الحل. حين يشعر الناس أن المشروع ليس لهم، أو أنهم مجرد منفذين لا شركاء، فإنهم يتخلون عنه في أول فرصة.
10. ضعف في إدارة الأزمات والانكسارات
كل مشروع نهضوي سيواجه تحديات وصدمات وانتكاسات. المشاريع التي تفتقر إلى مرونة عقلية وتنظيمية تنهار أمام أول فشل، لأنها لم تُبْنَ على الصبر، والتدرج، والتوقع الواقعي للعقبات. النجاح ليس في غياب العقبات، بل في القدرة على تجاوزها وتعلم الدروس منها.
خاتمة: لا موارد بلا إنسان
الموارد بلا إنسان ناضج وواعٍ تصبح عبئًا أو أداة تخريب. النهضة لا تُقاس بعدد المليارات، بل بنوعية الإنسان الحامل للفكرة، وصدق القيم التي تحكمه، وجودة التخطيط، وعمق الفهم للواقع.
وكما قال د. جاسم سلطان: "المشكلة ليست في المادة، بل في الوعي، وفي الفكرة التي تُوجّه هذه المادة." فلنراجع مشاريعنا، ونبدأ من الجذر: بناء الإنسان، لا فقط جمع الموارد.

د. سامر الجنيدي
- طبيب وجراح الفم والأسنان
- حاصل على الماجستير 
- مواليد القدس عام 1973
- مدرب معتمد في برامج التفكير والإبداع
- يعمل في الحقل الفكري والتدريبي لتنمية مهارات الشباب

المراجع: 
- من الصحوة إلى اليقظة | د. جاسم السلطان 
- شروط النهضة | مالك بن نبي
- سلسله تأسيس وإدارة المشاريع | د. طارق سويدان
- أبحاث مركز نماء للبحوث والدراسات.