تربية الإنسان أم تغيير الواقع: من أين نبدأ؟
بدران بن لحسن
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر
مضى على أمتنا في العصر الحديث قرنان على الأقل من محاولات الإصلاح والتجديد والنهضة، ولكن لم تحقق أمتنا نهضتها الحضارية بعد، بل ما زالت أمتنا على هامش الأمم، ودولنا في ذيل ترتيب دول العالم من حيث القوة والمَنَعة والتقدم الصناعي والتقني والاقتصادي، ومن حيث القوة العلمية ومستوى الحياة الاجتماعية التي تحقق الكرامة لأبنائها وبناتها.
واليوم، وفي زمن التحولات العاصفة، والمآزق البنيوية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في سؤال النهضة من جذوره، لأننا – كما سبق القول – لا تزال شعوبنا ترزح تحت أعباء التخلف، وقيود الاستبداد، وآفات الفساد، رغم السعي الحثيث من نخبها الإصلاحية إلى تغيير الواقع، والخروج من دائرة التخلف والهامشية، نحو الحرية والكرامة والتقدم.
لكن، ومع تكرار محاولات الإصلاح والتغيير، وتجارب النهوض، يظهر سؤالٌ حادٌّ ومؤرِّق: لماذا لا يتغير واقعنا؟ لماذا تفشل محاولات التغيير، أو تنحرف عن مسارها، أو تُجهَض قبل أن تُثمر؟؟
وفي قلب هذا السؤال التاريخي، تبرز إشكالية عميقة، ذات طابع وجودي وتربوي في آنٍ معًا: هل يبدأ التغيير الاجتماعي الحقيقي من الإنسان؟ أي من داخله، من وعيه، من تربيته وسلوكه، فينعكس ذلك تدريجيًا على محيطه وواقعه؟ أم أن الإنسان لا يتغيّر إلا حين يشتبك مع الواقع، ويصطدم بتحدّياته، ويختبر قضاياه، فتتغيّر نفسه من خلال الفعل والاحتكاك؟
بعبارة أخرى، نحن أمام جدليّة شائكة تتعلّق بمسار التغيير: هل نبدأ من تربية الإنسان ليُصلِح المجتمع؟ أم نبدأ من انخراط الإنسان في المجتمع ليُربّي نفسَه من خلال الفعل؟
هذا السؤال ليس نظريًا أو فلسفيًا فقط، بل هو سؤال عملي يعكس مآلات مشاريع التغيير في عالمنا العربي، ويحدد طبيعة المداخل التي نعتمدها للخروج من التخلف. وقد جاء القرآن الكريم ليمنحنا مفتاحًا حاسمًا لحسم هذه الإشكالية، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). هذه الآية الجليلة تبيّن سنّة تاريخية اجتماعية في مسار التحولات التاريخية: أن لا تغيير خارجي يمكن أن يحدث ما لم يسبقه تغيير داخلي في الأنفس.
فما هو المقصود بـ﴿مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ؟ وهل المقصود التغيير الداخلي التربوي فقط؟ ثم، هل هذا التغيير يتم داخل نفس الانسان منعزلاً عن حركة الواقع، أم من خلال تفاعل حيّ بين الإنسان وواقعه؟
هكذا تتشكل أمامنا إشكالية مركبة، تحتاج إلى تحليل وتفكيك، لفهم من أين يبدأ التغيير، وكيف تتكامل التربية الذاتية والفاعلية الاجتماعية في صناعة التغيير والنهضة.
أولاً: التغيير يبدأ من الإنسان.
يُعدّ التغيير الاجتماعي أحد أبرز الإشكاليات التي شغلت المفكرين والمصلحين في مختلف العصور، لا سيما في المجتمعات التي تعاني من صور متعددة من الاختلالات التي تحتاج إلى إصلاح. ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة في السياق العربي الإسلامي المعاصر، بالنظر إلى تعثّر مشاريع النهضة، وتكرار محاولات الإصلاح دون تحقيق تحوُّل جذري في بنية الواقع. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في منطلقات التغيير ومداخله، وفي مقدّمتها مسألة علاقة التغيير الاجتماعي بتغيير الإنسان نفسه، باعتباره الفاعل المركزي في حركة التاريخ.
وتُشكّل الآية القرآنية: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، منطلقًا مرجعيًا لتأصيل رؤية قرآنية شاملة لمسألة التغيير، وذلك بالنظر إلى ما تتضمّنه من أبعاد معرفية وقيمية وسنن اجتماعية. فالآية تقرّر مبدأً حاسمًا مفاده أن التغيير بأحوال الاجتماع والعمران مشروط بتغير داخلي في النفس الإنسانية. إن مفهوم ﴿مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ هنا لا يقتصر على الانفعالات أو الحالات النفسية العابرة، بل يشمل جملة من العناصر العميقة التي تشكّل وعي الفرد وموقفه من ذاته وواقعه، من بينها المنظومة القيمية، والبنية المعرفية، وطبيعة التصورات عن العالم والوجود، وأنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية، أو ما يسميه مالك بن نبي بتغيير محيطه الثقافي؛ أي ثقافته.
ووفقًا لهذا المنظور المستنتج من الآية، فإن التغيير يبدأ من الإنسان ذاته، لا باعتباره وحدة منعزلة، بل كفاعل واعٍ يتحمل مسؤولية فكرية وأخلاقية وتاريخية. وهذا يعني أن التربية، بمفهومها الشامل الذي يجمع بين التزكية، وبناء الإرادة، وتشكيل الوعي وصقل القدرات، ليست مجرد أداة مصاحبة للتغيير، بل هي شرطه الجوهري ومقدمته المنهجية. فالمجتمع الذي لا يربّي أفراده بما يؤهلهم للانخراط بفعالية فيه، يظلُّ عاجزًا عن تجاوز أزماته، مهما توفرت له الموارد أو أتيحت له الفرص السياسية أو الاقتصادية.
وتتجلّى هذه القاعدة أيضًا في النموذج النبوي، حيث ابتدأ الرسول ﷺ دعوته بإعادة تشكيل الإنسان، من خلال تربية عقديّة وأخلاقيّة طويلة المدى، سبقت إقامة المجتمع والدولة أو مواجهة النظام الجاهلي. وقد استغرقت عمليّة بناء الإنسان قرابة ثلاثة عشر عامًا في مكّة، تركزت فيها الجهود على تحرير العقول من الوثنيّة، وتزكية النفوس، وتشكيل وعي جديد قائم على التوحيد والكرامة والعدل، وهو ما مهّد لظهور جيلٍ مؤهَّلٍ لقيادة التغيير، عندما حانت اللّحظة التاريخيّة المناسبة..
إن قراءة الواقع العربي المعاصر من زاوية هذه السنّة القرآنية يبرز مفارقة واضحة: فقد شهدت مجتمعاتنا محاولات متكررة لتغيير الواقع، سواء عبر الثورات أو الانتخابات أو الإصلاحات المؤسسية، غير أن الغالبية منها لم تؤدِّ إلى نتائج جوهرية، بل أعادت إنتاج أنماط التسلُّط والفساد بصيغ جديدة. ويُعزى ذلك، في جانب منه، إلى غياب التغيير في مستوى الإنسان؛ إذ لم تصاحِب هذه المشاريع عمليات تربوية تُعيد بناء الوعي، وتُرسّخ القيم الكلية الأساسية، وتبني في الانسان المسؤولية والفاعلية، وتحفّز الإرادة الشعبية على التغيير الحقيقي.
بناءً على ما تقدّم، يمكن القول إن الآية الكريمة تؤسّس لمنهج حضاري للتغيير، يستند إلى رؤية سُننية ترى في الإنسان محور الإصلاح ومنطلقه، وتربط بين تحوّل البنى المجتمعية وبين إصلاح الداخل النفسي والفكري والقيمي. فالتغيير إذًا ليس مجرد استجابة ظرفية لأحداث خارجية، بل هو نتيجة لتراكم تربوي ومعرفي يغيّر طريقة التفكير والسلوك، ويمنح المجتمعات قابلية للنهضة والتغيير.
ثانيًا- التربية بوصفها محرك التغيير.
إذا انطلقنا من الرؤية القرآنية التي تجعل من التغيير النفسي والفردي مقدّمةً ضروريةً لأي تحوّل اجتماعي، فإن أنصار هذا الاتجاه يدعمون موقفهم بجملة من الحجج النظرية والتاريخية التي تؤكّد مركزية الإنسان في مسار الإصلاح. فالتاريخ، كما يرون، ليس نتاجًا لقوى عمياء أو ظروف مادية محضة، وإنما هو تعبير عن خيارات بشرية واعية، تتجسد في الأفراد والجماعات من خلال منظومات فكرية وقيمية وسلوكية. وبالتالي، فإن أي محاولة لتغيير الواقع دون الاستثمار أولًا في بناء الإنسان تُعدّ قاصرة، وعرضة للفشل أو التشويه.
ومن أهم الحجج التي يوردها هذا الاتجاه أن الإنسان هو الفاعل المركزي في التاريخ، بما يملكه من إرادة ووعي ومسؤولية أخلاقية. إذ أن كل مظاهر الفساد، والانحطاط، والاستبداد، ليست سوى تجلّيات خارجية لخلل أعمق في الأنفس: في بنية التفكير، وفي نظام القيم، وفي منظومة المهارات والقدرات، وفي السلوك. ولذلك، فإن تجاوز هذه المظاهر لا يكون فقط بتغيير القوانين أو الأنظمة، وإنما بتصحيح الخلل في البنية النفسية والثقافية التي أنتجتها. وإن مجتمعًا يعتاد الهامشية والفوضى والانكفاء والكذب والغش والأنانية واللامبالاة وغيرها، لن يكون قادرًا على إنتاج مؤسسات عادلة، أو ثقافة سياسية ناضجة، حتى لو تبدّلت النخب الحاكمة أو تغيرت البُنى الظاهرة.
ويُستشهد في هذا السياق بعدد من التجارب التاريخية، حيث فشلت حركات التغيير التي ركزت على البُنى الفوقية دون العمل على تربية الإنسان. فالثورات التي اندلعت دون أن تصاحبها عمليات تربوية وفكرية عميقة كثيرًا ما انحرفت عن مسارها، أو أعادت إنتاج أنماط جديدة من الاستبداد، لأن الإنسان – الذي هو محور التغيير – لم يتغيَّر في وعيه وسلوكه. وفي المقابل، فإن المشاريع الحضارية الكبرى التي غيَّرت وجه التاريخ، سواء في التجربة الإسلامية الأولى أو غيرها، بدأت ببناء الإنسان من خلال التربية والتزكية، حتى إذا تغيّر الإنسان، تغيّر الواقع تبعا لذلك.
ويستدلّ أصحاب هذا الاتجاه كذلك بالسيرة النبوية الشريفة، التي تُعدّ نموذجًا تطبيقيًا لمفهوم التغيير من الداخل. فقد أرجأ النبي ﷺ المواجهة المباشرة مع البنية الجاهلية في مكة، وركّز جهوده على تربية الأفراد، وغرس العقيدة، وتشكيل نمط جديد من الإنسان المؤمن الصادق الشجاع المسؤول. واستمر هذا البناء قرابة ثلاثة عشر عامًا، تشكّل خلالها جيل الصحابة الذي حمل رسالة الإسلام، وأسس لحضارة راقية تجاوزت البُعد السياسي إلى التأثير الثقافي والروحي والاجتماعي. وتُبرز هذه المرحلة أن التغيير الحقيقي لا يُقاس بسرعة النتائج الظاهرة، بل بعمق التحوّل الذي يحدث في الإنسان، باعتباره أساس البناء الحضاري.
ومن الناحية الفلسفية، فإن هذا التصوُّر ينطلق من رؤية تكاملية للإنسان، ترى فيه كائنًا حرًّا وعاقلًا ومسؤولًا، وليس مجرد مُتلقٍّ للظروف أو نتاجًا للحتميات الخارجية. فالفكر الإسلامي – في أصوله كما نعلم – لا يعترف بحتمية مادية تحكم حركة المجتمعات، وإنما يرى أن الإرادة الإنسانية، إذا ما ارتبطت بالحق ووجِّهت بالهداية، تملك قدرة عظيمة على تغيير الواقع وصناعته، بفضل ما أودعه الله في الإنسان من قابليات واستعدادات.، ولذلك مما يؤثر عن مالك بن نبي قوله: "غير نفسك تغير التاريخ".
لذلك، فإن من يقدّم الإنسانَ على الواقع في معادلة التغيير، لا يُنكِر أهمية الظروف السياسية أو الاجتماعية، لكنه يؤكِّد أن فعاليتها مشروطة بمدى استعداد الإنسان لتقبّلها والتفاعل معها. فالقوانين والمؤسسات، مهما بلغت من الإتقان، لا يمكن أن تُثمر في بيئة يفتقد فيها الإنسان إلى الوعي والمسؤولية. ولهذا فإن التربية – بوصفها عملية تراكمية تؤسس للوعي والقيم – تُعدّ في نظر هذا الاتجاه رافعة أساسية لأي إصلاح حقيقي، بل هي الضامن الوحيد لاستدامته.
ثالثًا: هل نغير أنفسنا في عزلة عن الواقع؟
في مقابل الاتجاه الذي يُقدّم تربية الإنسان كمنطلق أول للتغيير، يبرز اتجاه آخر يُركّز على أولوية الانخراط في الواقع شرطاً لاكتساب الوعي والنضج، ويرى أن التغيير الاجتماعي لا يمكن اختزاله في المسار التربوي المجرَّد، بل يتحقق من خلال التفاعل الديناميكي مع السياقات الواقعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ووفقًا لهذا التصور، فإن التغيير لا يُنتج بالضرورة إنسانًا مثاليًا أولًا، بل يصنع الإنسان أثناء الفعل، ومن خلال ممارسة الفعل ذاته. فالمعرفة لا تسبق التجربة، بل تتكوَّن عبرها.
ينطلق أنصار هذا الرأي من ملاحظة أساسية مفادها أن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌ يتشكل وعيُه من خلال التفاعل مع المحيط، وأن التجربة الحيّة في الواقع، بما فيها من احتكاك وتحديات وصراع، تمثل مجالًا فعّالًا لإعادة بناء الوعي وتحفيز التغيير الشخصي. فالنضج الإنساني، كما يرون، لا يتحقق بالكامل في فضاء تربوي معزول أو مثالي، بل يتكوّن ضمن عملية تاريخية معقدة، حيث يُعيد الإنسان اكتشاف ذاته وحدوده وإمكاناته من خلال الممارسة العملية. ولهذا فإن المشاركة في الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها من مجالات الحراك والنضال، حتى وإن لم يكن الأفراد على درجة عالية من الوعي أو التكوين، تظل ضرورية ومحفّزة للتغيير الفردي والجماعي على حدٍّ سواء.
تستند هذه المقاربة إلى عدد من الأمثلة الواقعية، خاصة من التجارب المعاصرة، حيث برزت تحولات نوعية في وعي الأفراد والجماعات عقب انخراطهم في حركات نقابية أو طلابية، أو حركات سياسية، أو انتفاضات شعبية، أو مشاريع مقاومة سلمية، أو أشكال من العمل المدني. وقد شهدت المجتمعات العربية – خلال العقد الأخير – بروز وعي سياسي متقدم لدى فئات لم تكن منخرطة من قبل في الشأن العام، وذلك نتيجة انكشاف البنية السياسية وممارسة الناس لحقهم في الفعل والمقاومة السِلميَّة. وقد غيّر الواقعُ المشاركين فيه بقدر ما حاولوا هم تغييره. وفي هذا السياق، لا يبدو الفعل الاجتماعي والسياسي مجرّد نتيجة للوعي، بل أحد شروط إنتاجه وتطويره.
ويُضاف إلى ذلك أن انتظار "تغيير الإنسان" بوصفه شرطًا مسبقًا لأي تدخل في الواقع قد يؤدي إلى نوع من السلبية أو التواكل أو الهامشية، ويُكرّس منطق الانتظار والتأجيل والانزواء، مما يُسهم في استدامة الواقع الفاسد بدل تغييره. فالتربية، برغم أهميتها، تحتاج إلى بيئة تطبيقية تُجسّد فيها القيم والمعاني النظرية، إذ لا يكفي أن نربّي على العدل إذا لم نكن طرفًا في معركة من أجل العدالة، ولا على الحرية دون الانخراط في مقاومة الاستبداد. ومن هنا فإن الواقع، بكل ما يحمله من صراعات وتعقيدات، لا يُنظر إليه فقط كموضوع للتغيير، بل كفضاء لتعلّم التغيير ذاته.
ومما يُعزّز هذا المنظور أيضًا أن التكوين الفردي لا يكتمل إلا في سياق جماعي، بحكم ان الإنسان اجتماعيٌ بطبعه كما يقول ابن خلدون، وأن الإنسان يطوّر ذاته من خلال مساهمته في التغيير، لا عبر انعزالٍ نظريٍّ أو تربويٍّ بحت. وهذا يتطلب إعادة النظر في الفصل الحاد بين "تربية الإنسان" و"تغيير الواقع"، إذ يترابط الاثنان ترابطًا جدليًا: فالواقع يحفّز الإنسان على التغيير، والإنسان بدوره يعيد تشكيل الواقع من خلال ما يكتسبه من وعي وخبرة.
ورغم إقرار أنصار هذا الاتجاه بأهمية التأسيس التربوي، إلا أنهم يؤكدون على ضرورة الدمج بين المسارين: فالممارسة الواقعية تفعّل التربية وتمنحها معناها العملي، وتكشف نقاط ضعفها وقوتها. كما أن الميدان يشكّل اختبارًا حقيقيًا للخطابات التربوية، ويمكّن من إعادة توجيهها وتطويرها استنادًا إلى معطيات الفعل الواقعي.
وأصحاب هذا الاتجاه، الذين يركّزون على أولوية الانخراط في الواقع، يفهمون قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] فهماً يخرج عن القراءة الحَرفِيَّة أو الفردِيَّة للآية، ويتجه نحو قراءة سننية ديناميكية، ترى أن التغيير "الذي بالنفس" لا يُشترط فيه أن يكون سابقًا أو مكتملًا في عزلة عن الواقع، بل يمكن – بل يجب – أن يحدث من خلال الممارسة، والاحتكاك، والتفاعل مع معطيات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وفق هذا الفهم، "ما بالنفس" لا يُحصر في الجانب الداخلي الخالص للفرد، بل يشمل بنية الوعي، وأنماط التفكير، والتصوُّرات الجَمعِيَّة، والخيارات العملية التي تنشأ وتتطور في ظل التجربة الحيَّة. فالتغيير المطلوب "بالنفس" يمكن أن ينشأ من خلال التورّط في الواقع، لا بالانفصال عنه. وهذا التصوُّر يجعل من الفعل الميداني شرطًا لاكتساب الوعي، لا نتيجة لاحقة له فقط.
انطلاقًا من ذلك، فإن هذا الاتجاه لا يرى في الآية دعوة إلى انتظار نضج الوعي الفردي والجماعي قبل الانخراط في الفعل، بل يفهمها كتحفيز على تولّي المسؤولية التاريخية، أي أن ينهض الناس بواجب التغيير بدءًا من أنفسهم، بما يملكون من وعي جزئي، وإمكانات محدودة، لأن هذه الخطوة الأولى هي التي تطلق دورة التغيير السننية. فالله تعالى لا يغير ما بقوم وهم سلبيون، معتكفون، ينتظرون نضجًا مثاليًا قد لا يأتي. وإنما يتغيّر حال القوم عندما يباشرون حركة داخلية – ولو أولِيَّة – تنعكس في أفعالهم الواقعية، وتعيد تشكيل ذواتهم تباعًا.
وعليه، فإن تغيير ما "بالنفس"، عند أصحاب هذا الاتجاه، لا يعني العزلة من أجل تهذيب النفس، أو حبس الذات في مؤسسات تربوية مغلقة، بل يعني التوجُّه إلى ساحات الفعل حيث تتعرّض النفس لاختبار حقيقي، وتُصقل القيم، ويُبنى الوعي، وتُستخلص الدروس. فهم يرون أن التربية الحقيقية لا تكتمل خارج الميدان، وأن من ينتظر تغيّر نفسه ليبدأ الفعل، سيظل مؤجلًا، مهمّشًا، ومنفصلًا عن الواقع.
وهذا الاتجاه ينظر إلى الآية الكريمة ضمن سنن التغيير الحضاري، ويرى أن التغيير المطلوب بالنفس يتحقّق في خضم التفاعل مع العالم، لا في الانسحاب منه، وهو ما يقرِّب هذه الرؤية من الفهم السنني التكاملي الذي لا يفصل بين النفس والمجتمع، بين الإنسان والواقع، بل يجعلهما في علاقة جدلية يُعيد فيها كل طرف تشكيل الآخر. وفي المجمل، يرى هذا الاتجاه أن التغيير لا يُبنى فقط في المدارس والمساجد والندوات، بل في ميادين الفعل، حيث يخوض الإنسان صراعًا من أجل كرامته، وحريته، وعدالته. وبهذا الفعل، لا يغيّر فقط واقعه، بل يُغيّر ذاته تدريجيًا، وينضج وعيه ليصبح أكثر قدرة على إنتاج تغيير مستدام.
رابعًا: التغيير الداخلي والخارجي: جدلية متفاعلة
في ضوء التحليل السابق، يتّضح أن كِلا الاتجاهين – القائل بأولوية تربية الإنسان، والمراهن على الانخراط في الواقع – يعكسان مقاربتين مختلفتين للتغيير الاجتماعي، تستندان إلى منطلقات متبايِنة من حيث التأكيد على مصدر التحوُّل ومساره. غير أن اعتبار العلاقة بينهما علاقة تعارض صارم قد يُفضي إلى مقاربة تجزيئية، تُغفِل الطبيعة المركَّبة والمتشابكة لمسارات التغيير الحضاري. فالتجربة التاريخية والواقع العملي يدفعان إلى الإقرار بأن هذين البُعدين – التربوي والواقعي – ليسا متقابليْن على نحو يُقصي أحدهما الآخر، بل يتكاملان ضمن سيرورة واحدة متعددة الأبعاد.
فمن جهة أُولَى، تُظهر الرؤية القرآنية أن التغيير النفسي والقيمي يمثل أساسًا لا غنى عنه لأي تحوّل اجتماعي، غير أنها لا تلغي في الوقت ذاته أثر الظروف والسياقات الواقعية. فالآية الكريمة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11) لا تنكر تأثير العوامل الخارجية، بل تؤكّد أن فعاليتها مشروطة بمدى قابلية المجتمع الداخلي للتغيير واستعداده له.
ومن جهة ثانية، فإن الواقع ليس مجرَّد مسرح لفعل الوعي، بل هو عامل تكويني في بناء الوعي ذاته، حيث تُعيد الجماعات صياغة تصوراتها من خلال الفعل والتجربة.
من هذا المنظور، يمكن الحديث عن جدلية متكاملة بين التربية والممارسة، حيث تُسهم التربية في تشكيل وعي الإنسان وإعداده للقيم والمبادئ التي يجب أن توجِّه الفعل، بينما تتيح المشاركة في الواقع اختبار تلك القيم، وتمنحها مضمونًا عمليًا يُسهم في تعميقها وتطويرها. فالتربية دون ممارسة قد تبقى في حدود التنظير الأخلاقي، والممارسة دون تربية قد تنزلق نحو العبثية أو التوظيف النفعي للواقع. ولذلك فإن الرؤية المتوازنة للتغيير تستلزم الجمع بين التأسيس التربوي العميق والانخراط الواعي في الشأن العام، بما يوفِّر لكل من الفرد والمجتمع الشروط اللازمة للنضج والتأثير المتبادل.
ويُعزز هذا الاتجاه التكاملي ما تشير إليه الدراسات الاجتماعية المعاصرة، التي تؤكد أن بناء الإنسان ليس عملية مغلقة أو فردية محضة، بل يتأثر باستمرار بالبنية الاجتماعية والسلطة والثقافة المهيمنة والفرص المتاحة للمشاركة. كما أن إعادة تشكيل الواقع لا تتم على نحو خطي، بل من خلال تدافع مركَّب بين القيم والتجارب، يتطلَّب أفرادًا يمتلكون قدرًا من الوعي، وفي ذات الوقت يستمر هذا الوعي في التشكُّل والتطوُّر عبر الممارسة.
في السياق العربي الإسلامي، يزداد هذا الطرح أهمية نظرًا لتعقيد الواقع وتداخل أبعاد الأزمة: فالمجتمعات تعاني في آنٍ واحد من اختلالات في مستوى الوعي والسلوك، ومن انسداد سياسي وهيمنة خارجية. ومن ثَمّ، فإن أي مشروع نهضوي جاد لا يمكنه أن يكتفي بالرهان على إصلاح الإنسان بمعزل عن تفعيل مشاركته في الواقع، كما لا يجوز اختزال التغيير في مخرجات سياسية أو مؤسسية دون التأسيس لقيم ومبادئ ضابطة. وإن تجاوز هذه الثنائية يتطلب تبني مشروع حضاري شامل يُعيد بناء الإنسان في تفاعله مع واقعه، ويفتح له المجال للمبادرة، والمقاومة، والتعلّم من خلال الفعل، دون التفريط في أهمية التكوين الفكري والنفسي والقيمي.
بناءً عليه، فإن التصوُّر الأكثر نجاعة للتغيير هو ذلك الذي يستوعب التداخل الجدلي بين الذاتي والموضوعي، بين تربية النفس وتفعيل الانخراط الاجتماعي، ويؤمن بأن الإنسان لا يُبنى خارج التاريخ، كما أن التاريخ لا يُصنع من دون إنسان واعٍ وفاعل. ومن هنا فإن مشروع التغيير الحقيقي، في سياقه العربي الإسلامي، هو ذاك الذي يدمج بين السنن النفسية والاجتماعية، ويُراهن على تكوين الإنسان لا بوصفه شرطًا مسبقًا، بل شريكًا في التكوين والتغيير.
خاتمة: الحاجة على رؤية تركيبية.
في ضوء ما سبق من تحليل ومقارنة بين اتجاهين متمايزين في مقاربة التغيير الاجتماعي، يمكن القول إن جدلية "تغيير الإنسان" و"تغيير الواقع" لا ينبغي أن تُفهم بوصفها ثنائية متعارضة، بل تفهم على أنها علاقة تفاعلية يتكامل فيها البعد الذاتي مع البعد الموضوعي، ويتشكل من خلالها مسارٌ أكثر توازناً وإمكاناً لإنجاز التغيير الحضاري المنشود. فالرؤية القرآنية التي عبّرت عنها الآية الكريمة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، ترسي مبدأً سننيًا حاسمًا يُعلي من شأن الفاعلية الإنسانية، ويحمّل الإنسان مسؤولية التغيير بدءًا من نفسه، دون أن تفصله عن محيطه وسياقاته الثقافية والاجتماعية والسياسية.
وقد بيَّنت التجربة الإسلامية الأولى في مراحلها التأسيسية أن مشروع التغيير الحضاري لا يمكن أن يُبنى على مجرد تنظيرات أو إصلاحات مؤسسية معزولة، بل هو مسار تراكمي يبدأ من إعادة تشكيل الوعي الفردي والجماعي، ويُترجم عمليًا من خلال الحضور الفاعل في الواقع.
وعلى هذا الأساس، فإن التغيير لا يكون فاعلاً ومستدامًا إلا إذا انطلق من بناء الإنسان القادر على تجاوز أنماط السلبية والخضوع، وفي الآن ذاته، المُنخرط في حركية المجتمع، والمبادر في صنع واقعه وتحمل تبعاته.
ومن هذا المنظور، فإن تجاوز حالة التخلف التي تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية اليوم يقتضي استراتيجية مزدوجة: تقوم من جهة على إعادة تأسيس الذات عبر التربية على بنية فكرية ونفسية وروحية وسلوكية مؤصلة مرجعيًّا ومتماسكة ومواكبة للواقع، وتُراهن من جهة أخرى على الانخراط الواعي والمسؤول في الواقع، باعتباره شرطًا لإعادة إنتاج الوعي وتوجيهه نحو التغيير الإيجابي. فالفعل التربوي يفقد معناه إذا لم يتحوَّل إلى طاقة تغييرية مؤثرة في المحيط، كما أن الفعل الواقعي قد يتحوّل إلى عبث أو تكرار تاريخي إذا لم يُضبط ببوصلة الرؤية والقيم والمبادئ.
تأسيسًا على ذلك، فإن الرؤية الإصلاحية الأكثر نجاعة هي تلك التي توفّق بين متطلبات البناء الذاتي ومتطلبات الحضور التاريخي، وتؤمن بأن التغيير الحضاري هو سيرورة طويلة الأمد تتطلب تكوين إنسانٍ مُستنيرٍ بالقيم، ومؤهَّل للفعل، وقادر على التكيّف والتجديد في مواجهة التحديات المعقدة. وبهذا التوازن، يُصبح التغيير فعلًا سننيًا واعيًا، يجد جذوره في الذات المؤمنة، ويتجلى أثره في الواقع المتغير، فيتقدّم المجتمع نحو تحقيق النهضة، ويقترب من تحقيق مقاصده الكبرى في تجديد الانسان والعمران.