يعيش العالم اليوم تحت تأثيرٍ قويٍّ للنموذج الحضاريِّ الغربيِّ، الذي يفرض رؤيته المادِّيَّة على مختلف جوانب الحياة؛ الأمر الذي يشكِّل تحدِّياً وجوديّاً للمسلمين، ليس فقط في عقيدتهم؛ بل في انتمائهم وهويَّتهم الحضاريَّة؛ هذه الهيمنة التي تتغلغل عبر الإعلام والثقافة والسياسة، تجعل كثيراً مِن الشعوب -دون وعيٍ منها- تتبنَّى مواقف سلبيَّةً تجاه الإسلام والمسلمين
لمَّا كنَّا لا نملك -أصلاً- أقوى من النص القرآني لنبني عليه تصوُّراتنا وتحليلاتنا كما قال طه عبدالرحمن، فإنَّ التدبُّر بالآية الكريمة المصدَّرة عنواناً للمقالة، يفتح لنا آفاقاً من النظر والعمل بقدر ما نطيق من اقتباسٍ من أنوار هذه الآية وقوانينها وتصوُّراتها وحقائقها. فالمسلمون بحاجةٍ إلى الوقوف لتدبُّر قرآنهم بقدرٍ يفوق قراءتهم له وختمهم له فقط، فهو إن لم يكن جواباً صريحاً عن سؤالٍ واجهك، فلا أقلَّ من أن تحظى بالإرشاد والتوجيه الفائق لك فيما تسأل عنه: أين تجده؟ وكيف ترتّب أولوياتك؟ وكيف تستخرج المقاصد؟ وكيف تنفعل في معاشك منشِئاً لَبِنةً تِلوَ لبنةٍ لبنائك في العمران الذي كُلِّفت به منذ استخلفك الله و استأمنك؟
من أين تبدأ النهضة؟ من الأرض أم من الإنسان؟ من الاقتصاد أم من الفكر؟ لعلّ هذا السؤال من أكثر الأسئلة تداولًا في أوساط المهتمين بمصير الأمة ومشاريعها الحضارية. وقد شهد الفكر الإسلامي على امتداده محاولات عديدة للإجابة عنه، لكنّ الإجابة التي يفرضها التاريخ وتجارب الأمم هي: النهضة تبدأ من الإنسان، من تكوينه النفسي، وعقله المنفتح، وإرادته الواعية، وعلاقته المتزنة بالآخر. فالحضارة – كما يصفها علماء الاجتماع – هي نتاج تفاعل الإنسان مع محيطه، وهي لا تنشأ إلا إذا كان هذا الإنسان مؤهلًا لبنائها.
يُعدُّ موضوع "روح القرآن" قضيَّةً جوهريَّةً ترتبط بالإيمان، وهو من أعظم الموضوعات التي تتطلَّب تدبُّراً عميقاً، فإذا كان البعض يرى أنَّ روح القرآن تتمثَّل في قضيَّة الإيمان المجرَّد، فإنَّ الفاعليَّة الحقيقيَّة للقرآن في حياة الأفراد والمجتمعات تتوقَّف على "الشرط الأخلاقيِّ"، وهو الضرورة الحيَّة التي تجعل القرآن حيّاً في واقع الأمَّة عموماً وفي حياة الأفراد خصوصاً؛ بل إنَّه المنهج المتكامل الذي يتطلَّب التزاماً أخلاقيّاً يعكس جوهره الحقيقيَّ في السلوك والتعاملات، ومن دون هذا الشرط يفقد الدين قدرته على التأثير، ويصبح مجرَّد شعاراتٍ لا تحرِّك الضمير ولا تبني حضار